لم تكن الواجهة الترابية هي ما جذبني، بقدر ما كان النور الساطع المنبعث من داخل ذلك البناء الشاهق.. لم أر قبل هذه المرة نورا بهذا التلون والوضوح يشع من داخل بهو كنيسة، فمداخل الكنائس الأوروبية غالبا ما تكون خشبية ومداخلها جانبية، أما هذه فأنوارها من قلبها، ومما بدا لي أنه كان بهوا كبيرا بهي الألوان لا شموعا توسدت أطرافه ولا تماثيل زينت أعمدته ولا نمنمات افترشت قبابه.

كنت مع زوجتي ميساء نكتشف ما تبقى من وقتنا في ميلانو، حيث قضينا يومين شاهدت فيهما ما لم أشاهده في كل زيارتي التي قد تكون تجاوزت العشر، فاكتشاف المدن يكون مع من نحب، طالما كانت الروح هي التي تلهمك في الوصول إلى تلك المناطق النائية من حقيقة الأزقة وملامح السكان وفضول الحيوانات وروائح لحظات التاريخ.

كنت وما زلت أتساءل عن السبب الذي يدفعنا جميعا لأن نفر إلى مثل هذه المدن ونتجول بين ملامحها وتاريخها الذي لا يشبه معظمنا، وكيف تكون أرض الكفر والضلال مزار أناس يتشربون الفضيلة حتى في منامهم، تماما كما ذلك الرجل الذي كوم زوجته وأبناءه الخمسة في صف واحد في الطائرة لينحو بنفسه في مقعد خلفي بعيد عن ضجيجهم ولكنه قريب بقدر كاف لمراقبة نظرات ابنته وتحركات زوجته!

عندما وصلت إلى روما كنت أتوق لتسجيل تلك اللحظة التاريخية أمام (الكولوسيوم) ملعب القتل والجبروت ورمز لحضارة نتذكر امتدادها السياسي والجغرافي كل يوم، وننسى قيمتها الحضارية في بناء الأمم وتكون التاريخ والفكر والذوق، فعلى الرغم من أني زرت المكان صغيرا وكبيرا إلا أنني لم أكن أنظر لذلك المسرح "الملعب" إلا باعتباره من آثار الأولين، لم تكن حجارة قد تشكلت في مخيلتي على شكل موجات كهروتاريخية أنتجت للعالم اليوم بعضا من ذوقه الرفيع وفنه العظيم وفكره الفسيح.

السؤال المحير لا يلبث أن يكون عنوانا لرحلاتي في أرض الله الواسعة: لماذا هذا التناقض وما أواجهه ولماذا يستمر؟ في كل مكان تتجه نحوه تجد شكلا من الإبداع قد تكوّن خروجا عن المألوف ليشكل إنتاجا إنسانيا متجاوزا الحدود والزمان، هو إبداع وجد لنفسه مسرحا للاستعراض أمام جمهور إنساني متعطش لألوان الطيف وهرطقاته، فربما يظهر لون جديد يحطم في لحظة سرمدية قوس قزح ومنبته البعيد.