تعد رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) في دورته الثلاثين إنجازا وطنيا كبيرا، حيث رعى المهرجان ثلاثة من ملوك هذه البلاد منذ انطلاقته الأولى في 24 مارس 1985 في عهد الملك فهد، ثم في عهد الملك عبدالله-رحمهما الله- بمبادرة من وزارة الحرس الوطني التي صنعت حدثا ثقافيا وطنيا مهماً اضطلعت به منذ ثلاثة عقود، ليصبح أحد أهم المكتسبات الثقافية باعتباره رمزا وطنيا تشارك فيه كل المناطق والمدن بثقافاتها المتعددة، ويحظى بمشاركة كافة الجهات في القطاعين الحكومي والخاص، في مناسبة وطنية يلتقي فيها الماضي بالحاضر، ومن أهم ما يهدف إليه هذا المهرجان "التأكيد على هويتنا العربية الإسلامية، وتأصيل موروثنا الوطني بشتى جوانبه، ومحاولة الإبقاء والمحافظة عليه ليبقى ماثلا للأجيال القادمة".
لقد كان أمام المهرجان الوطني للتراث والثقافة تحديات ثقافية، وأولها الاستمرار في ظل وجود "تنافسية" قوية من قبل مهرجانات عربية أخرى، وكان في مقدمتها مهرجان المربد في العراق، وقرطاج في تونس، وغيرهما من المهرجانات العربية التي كانت قبلة للثقافة والأدب والفنون قبل ثلاثة عقود، إلا أن (الجنادرية) صمد واستمر، بل نجح نجاحا باهرا منذ انطلاقته الأولى، وما زلنا نتذكره في الطفولة بعد أن أصبحنا في مرحلة الكهولة.
بل من المفارقات، أن تنظيم هذا المهرجان الوطني الكبير يأتي من قبل مؤسسة عسكرية سعودية عريقة هي (الحرس الوطني)، وهذه ميزة تكاد لا توجد ربما في العالم كله؛ لا سيما أن تاريخ المؤسسات العسكرية العربية وغير العربية ارتبط بمزاولة المهام والمسؤوليات المنوطة بها، كما ارتبط بالقمع والتسلط، والتاريخ شاهد اليوم في الدول المضطربة من حولنا.
غير أن الأمر في المملكة العربية السعودية مختلف، إذ إن قطب الرحى في المؤسسات العسكرية هو الشعب السعودي نفسه، ولهذا جاء تكوينها وطنيا شعبيا، واضطلعت بالاهتمام بهذا المهرجان الوطني الذي أصبح اليوم قيمة ثقافية عليا، فالأجيال الجديدة من أبنائنا لا يعرفون ما كان عليه آباؤنا وأمهاتنا من شظف العيش وقسوة الحياة، وها هو مهرجان (الجنادرية) يعيد الصورة الأولى كما كانت، من خلال البيوت الطينية القديمة وآلات الصناعة والزراعة، والأزياء والفنون والأهازيج وغير ذلك، مما يتيح أمام الأسرة السعودية بكافة أفرادها أن تتصل بالماضي بأبعاده الحقيقية وطاقاته البشرية عبر هذا المهرجان الوطني المهم.
غير أن مجال التراث ليس نهاية المطاف، فالفكر والثقافة والأدب عناصر حاضرة من خلال الندوات واللقاءات التي ينظمها المهرجان، وقد مرّ أغلب مثقفي ومفكري وأدباء العالم على "الجنادرية" من خلال استضافة المهرجان لهم منذ ثلاثة عقود، وأصبح كثير من دول العالم تبحث عن حضورها كضيف شرف للمهرجان، واليوم ألمانيا ضيف الجنادرية في دورته الثلاثين.
إن استمرار "الجنادرية" ثلاثين عاما يجعله رمزا وطنيا علينا المحافظة عليه وتطويره، فهو يمثل أحد وجوه الاستقرار في المملكة، التي هي فعليا اليوم مركز مهم ومطلوب للثقافة العربية، وخاصة بعد أن فقدت معظم المهرجانات العربية رونقها، عقب دخول بعض الدول العربية-التي كانت مؤثرة- في دهاليز الحروب والتجاذب والاستقطاب السياسي، فلم يعد للثقافة مكانتها السابقة فيها لدى جمهورها العربي، إذ أصبحت الهموم بين النخب متمحورة حول السياسية، وهموم إنسان الشارع مرتكزة حول الاقتصاد وهموم الحياة اليومية.
غير أن من يتابع تاريخ المهرجان الوطني للتراث والثقافة سيجده منبرا للتنوع الثقافي الثري، وسيجد التطور والاستمرارية عنصرين رئيسيين فيه، حيث شعرنا مع هذا المهرجان منذ انطلاقته في الطفولة بأننا شركاء في الوطن قبل أن نكون شركاء في ثقافته، فهذا الوطن هو ثمرة غراس أيدي الآباء والأجداد بالأمس، ويجب أن نستمر نحن اليوم في الطريق ذاته نغرس شيئا منا لأجيالنا القادمة.