إن معركتنا الحالية والقادمة هي معركة تحرير عقل أكثر من كونها معركة تحرير أرض، بل إذا أردت أن تحتل أمة، فاحتل فكرها واهزم عزيمتها تأتيك أراضيها وخيراتها كلها تسعى إليك طواعية. وإنها بحق أصعب مهمة، لأن احتلال الأرض تسهل معاينته ورؤيته واضحاً جلياً، أما احتلال الفكر والعقل فلا يدرك من صاحبه بالعقل الذي هو داؤه.
هذه المعاني أكد عليها الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه المميز (أزمة العقل المسلم) الذي يستحق أن يكون مشروع العصر، وهو كتاب في أصله يتضمن مجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات والمحاضرات التي شارك فيها وقدمها كاتبنا على مدى عقود من الزمن. وفيه يحاول الكاتب التعمق في داء الأمة وتوصيف الدواء: داء التيه الحضاري الذي تعيشه الأمة منذ مقتل سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهما وأرضاهما إلى يومنا هذا.
ويقدم الكاتب مفهوم (الأصالة الإسلامية المعاصرة) ويؤكد أنها منطلق الحل، فيفند منطلقات مختلفة للخروج من الأزمة، هي: منطلق التقليد الأجنبي، منطلق التقليد التاريخي، منطلق الأصالة الإسلامية.
وفيما يخص منطلق التقليد الأجنبي، فهو الذي سيطر على مقدرات الإصلاح وإعادة التنظيم الاجتماعي في العالم الإسلامي على مدى أكثر من قرنين، وقد تجلى في تجربتين فاشلتين: تجربة الدولة العثمانية، وتجربة البنوك الإسلامية، فتمثلت تجربة الدولة العثمانية في تقليدها ومحاكاتها للغرب. والبنوك الإسلامية كذلك تقليد ومحاكاة لعلها تجد الحل في نهضة الأمة ونموها، وقد باءت بالفشل كذلك لأنها جاءت وفق منطلقات مغايرة لمنطلقات الإسلام وغير متوافقة مع قيمه وأهدافه وغاياته ووسائله.
ويشبه الحل الأجنبي الدخيل هنا الحل المسرحي الذي يجعل الأمة في مقام النظارة في المسرح لا دور لها فيما يجري على المسرح، وكل ما عليها هو أن تقف موقف التفاعل السلبي بالصراخ والهتاف كلما دعت الحبكة المسرحية إلى شيء من الانفعال.
أما الحل التقليدي التاريخي، فهو الحل الذي حاولته الأمة منذ قرون بعيدة، والذي يلغي الأبعاد الزمانية والمكانية لكيان الأمة ومسيرتها التاريخية. وهو يمثل في العصور المتأخرة تراجعاً مستمراً أمام تحديات الحياة المعاصرة وقوى العدوان الغاشم على عقل الأمة الإسلامية وفكرها، لأنه يحاول إعادة الصورة المادية التاريخية للمجتمع المسلم التي سادت في العصور الأولى دون اعتبار التغيرات التي طرأت على المكان والزمان والحال.
والإصرار على تلك الأساليب من الفكر ومنطلقات التقليد في الإصلاح أمر لا يمكن التسليم به دون التسليم بنتائجه التي انتهينا إليها من التخلف والضعف والتدهور والانهزام أمام الغزو الفكري الدخيل.
وأما عن منطلق الأصالة الإسلامية، فمفهوم (الأصالة المعاصرة) يعني التعامل مع الواقع المعاصر من منطلقات الأمة وذاتيتها الإسلامية الشمولية، وبالتالي فهم كلية التطبيقات والسياسات الأولى الإسلامية بكل أبعادها الزمانية والمكانية وتفهم واستنباط غاياتها ومقاصدها وعلاقاتها الصحيحة لتكون قاعدة التعامل مع كلية الحياة والمجتمع المعاصر، مما يمكن الأمة من الريادة الحضارية من جديد، وهي تبنى على ثلاثة جوانب رئيسية: دفع الرؤية العقدية البناءة، التفوق الفكري المنهجي الفعّال، سلامة التربية الوجدانية الإيجابية.
وبذلك فإن عملية الإصلاح لن تتم إلا بتكامل الجانبين العقدي والفكري، فهي في النهاية إعادة الصلة بين الوحي والعقل، أي بإعمال العقل في إدراك الوحي وقضاياه وهداية العقل لغايات الوحي الكلية الكونية وقيمه الحياتية والحضارية.
ويناقش الكاتب الجذور التاريخية لأزمة الأمة الإسلامية في عنصرين رئيسيين: تغير القاعدة السياسية: الأعراب والفتنة وسقوط الخلافة الراشدة، الفصام بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية. ويشير إلى أن ما وصلت إليه الأمة هو نتاج الفصام الذي استحدث بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية، بمقتل سيدنا عثمان وسيدنا على رضي الله عنهما وأرضاهما وسيطرة القبيلة الأموية، وتغلب الأعراب على الأصحاب أمثال الحسين وعبدالله بن الزبير ومحمد ذو النفس الزكية وزيد بن علي وجموع الأمم من روم وفرس وترك وهند وعجم ممن لم ينالوا قسطاً وافياً من التربية الإسلامية بمعينها الصافي.
وبتغير القاعدة السياسية وانفصال القاعدة الفكرية عن القيادة السياسية مارست القيادة السياسية إخضاع أصحاب الفكر والالتزام الديني بأهدافهم السياسية ومصالحهم، وكمثال ما نال الأئمة الأربعة من عذاب وتنكيل، فالإمام أبو حنيفة مات في السجن لأنه رفض تولي القضاء لسلطة سياسية غير ملتزمة، وأما الإمام مالك فقد ضرب حتى شُلّت يده بعد الفتوى التي أصر عليها ببطلان طلاق المكره بما كان لهذه الفتوى من أبعاد سياسية. وكذلك الحال مع الإمام أحمد بن حنبل لمعارضته مخططات السلطة السياسية أيام المأمون، وأما الإمام الشافعي فقد استطاع أن يهرب من حاضرة السلطان في بغداد إلى مصر بعد خوف السلطان من فكره.
ولذلك فإن الكاتب يؤكد أن الحركة الإسلامية لن تنجح باتكائها على الجانب العقدي فقط، وكذلك لن ينفع العلمانيين تعلقهم بالجانب الفكري، فيقول (إن ضم الجانبين العقدي والفكري هو في النهاية إعادة الصلة بين الوحي والعقل والفطرة).
ولذلك فالأزمة التي تواجهها الأمة ليست أزمة عقيدة وإنما هي أزمة فكر، والمشكلة تكمن في الخلط بين الفكر والعقيدة، فالعقيدة مقدسة أما الفكر فليس بمقدس، والخلط بينهما والتعامل معهما كشيء واحد يؤدي إلى رؤية غير واضحة، بل يرى أن هذا هو موطن الداء، لأن المسلم أصبح عاجزاً عن ممارسة النظرة الناقدة، ورزح المسلم بين نوعين من الإرهاب.
يقول الكاتب (أفردت القيادة السيادية لنفسها بغض النظر عن أصل النوايا والمقاصد، وسائل الإرهاب المادي، واستأثرت القيادة الفكرية لنفسها بوسائل الإرهاب النفسي). ثم ينطلق ليفصل في فحوى الأزمة ومجالات تصحيح المسار ليتوسع في شرح وتوضيح وتأكيد مفهوم أن أزمة عقل المسلم اليوم هي أزمة فكر لا أزمة عقيدة. وتساءل: لماذا ينقم غير المسلمين على المسلمين؟ مبدأ التوحيد؟ الإيمان بالله والحق والعدل؟ قصد الخير والإصلاح والعدل؟ مبدأ الشورى ومبدأ الإخاء وقيم الكرامة والاستقامة؟ مقاومة قوى الشر والفساد والطغيان؟ وجوب الصدق والأمانة والإتقان والإحسان وصلة الرحم؟.. إلخ. وأكد أن هذه هي منطلقات الإسلام وقيم الإسلام ولب الإسلام، وما عدا ذلك جهل وخلط وخرافة. وقام بعرض سريع من أمهات الكتب ومحكم آيات التنزيل وجوامع كلمات الرسالة التي تؤكد على قيم الإسلام وغاياته وتقطع بالمنهج الصحيح، الطريق على انحراف الفهم والغاية.
ثم فصل في أمهات القيم الإسلامية في كتاب الله: في وحدة الربوبية والألوهية، في وحدة الإنسان وغاية وجوده ومسؤولية ضميره، في العدل والإصلاح، في عدم الفساد والظلم والإسراف، في الصدق الأمانة والإحسان، في المعرفة والإعمار، في النوايا وقصد الخير.
ثم انتقل إلى السنن التي هي تطبيقات القرآن وظهيره: في القصد والضمير ومناط القيمة والمسؤولية الإنسانية. في الرفق والتراحم وحسن الخلق. في العدل والبذل وحسن العمل، ثم فصل في قضية التفرقة بين قضية الفكر والوسائل وقضية القيم والغايات، فأعاد التأكيد على أن أزمة الأمة إنما هي أزمة فكر لا أزمة عقيدة. وهي أزمة منهج لا أزمة فحوى. وهي قضية وسيلة لا قضية غاية.