أدت السيطرة الحوثية على الدولة -بمعاونة حلفائها- إلى فقدانها قدرتها على القيام بوظائفها وجعل مؤسساتها معزولة حتى من بناء ولاءات تمكنها من شرعنة وجودها، ولو بالحد الأدنى، ولم تعد شبكات المصالح والمحسوبيات التي جعلتها متماسكة سابقا قادرة على إعادة رسم خرائط الولاءات التي شكلها النظام السابق، وتم الرهان على الثأر والانتقام والإهانات كمداخل لإجبار الناس على الخضوع وفرض الشرعية الانقلابية.
فالدولة التي تعامل معها الحكام السابقون باعتبارها غنيمة فقدت بقايا شرعيتها بمجرد الإعلان الانقلابي للحركة الحوثية ورضوخ المؤسسات الحكومية وتحولها إلى أدوات لخدمة الميليشيا والخلية الأمنية الإيرانية، وأصبحت أدوات لإنتاج العنف والاحتراب ومكانا لشراء الولاءات العقائدية، وتم تدمير قواعد الصراع المتعارف عليها بكل سوئها، وانبعثت طموحات السيطرة والنفي والإقصاء، وتم صياغة السياسة اليمنية بنزعة استبدادية شمولية قهرية وفرض عنصرية عرقية ببعد كهنوتي عميق على الحياة السياسية والاجتماعية وعلى آلية توزيع الموارد.
ما كان للحوثية أن تفرض قبضة حديدية على المؤسسات وعلى المجتمع وتجريف كل خصومها ومنافسيها وإخضاع كل الأطراف بما في ذلك حلفائها لولا أن ذلك نتاج طبيعي لدولة ظلت نهبا لنخبة لم تهتم إلا بمصالحها الأنانية، وعجزت عن التأسيس لطبقة سياسية متماسكة قادرة على رسم خطوط الصراع الملتزم بالقضايا الوطنية، وهذا ما مكن الحركة الحوثية من إسقاط الجميع بضربة قاسية سريعة، وساعدها الفساد المتعاظم الذي حكم البلاد مع قلة الموارد وشبق النخب السابقة، فالشبق النخبوي للسلطة والثروة فجر الصراعات في دورات متلاحقة لإعادة صياغة خرائط القوة والنفوذ دون تقديم أي تنازلات فعلية لمنافع الناس، وهذا جعلهم ضحية سهلة.
ورغم التجريف الحوثي للدولة وفرض حكم كهنوتي ميليشاوي فإن وعي الأطراف اليمنية ما زال يتحرك في خطوط التناقضات التقليدية التي أوصلتنا إلى الانقلاب الحوثي، وما زالت المشكلة اليمنية في وضعها القديم ولم تهز النخبة هذه التحولات المذهلة، وما زالت الأطراف السياسة راضخة في إدارة الصراع بأدوات تقليدية ومافوية وتحكمها أحقاد متراكمة وشبق سلطوي وخدع مركبة والعمل من خلال شبكة مصالح قائمة على المحسوبيات، فانقلاب الميليشيا الحوثية لم يمكن النخبة التقليدية للنظام السابق بكافة أطرافها من إعادة بناء المشروع الوطني وفق معالم واضحة ولا تقييم أخطائها وخياناتها، بل إن الأمر أصبح أكثر تعقيدا وما زالت النخب تدير تناقضاتها التقليدية في جحيم استراتيجيات مدمرة.
وهذا الأمر ما زال عاملا مساعدا للحوثية رغم الضربات المتلاحقة وهزائمها، وهذا ما يعطي الحوثية الأمل في استمرار مخطط تثبيت أركان انقلابها عبر تفجير الجغرافيا اليمنية على نفسها من خلال حروب الكتل الجغرافية والرمزيات الدينية وإنهاك الجميع، وما يزال جناحها الأكثر التزاما بالعقائد الكهنوتية متيقنا من أن إكمال ثورتهم الخمينية في اليمن بحاجة إلى إشعال الحروب الداخلية التصفوية ضد كل معارضيها، وإشعال فتيل الفتن بينهم حتى تتمكن من شرعنة وجودها وبناء نظام الولاية المتشابهة مع نظام ولاية الفقيه الإيرانية، وفي الوقت نفسه تعمل على إرسال العصابات إلى الحدود كمحاولة للوصول إلى صفقة تمكنها من الاستمرار لإنجاز أهدافها الخمينية مستقبلا.
كانت الحوثية قبل عاصفة الحزم تخطط لإدارة حروب داخلية حاسمة وشاملة لفرض هيمنة مطلقة ضد كل أطراف النخبة السابقة التي شكلها نظام صالح، ولشن حروب متقطعة على الحدود في مراحل تثبيت جذور نظام الولاية الدينية والسياسية والضغط على دول الخليج لتغطية حاجاتها الداخلية، بمعنى أن إيران والمنظومة الانقلابية خططتا لتهديد الخليج وابتزازه ليمول ثورتهما الخمينية والانتقال مستقبلا بعد تثبيت قوة نظامهما لإعلان الحرب الشاملة ضد السعودية وتحويل اليمن إلى جغرافيا لتصدير الثورة الخمينية، وفق منظور مغاير للمذهب الاثنى عشري، وما زال مخطط تصدير الثورة الخمينية يعمل على قدم وساق من خلال استراتيجيات الحرب المتماثلة، وما يبعث لديهم الأمل المدرسة السياسية للنظام السابق بكافة تناقضاتهم وغبائهم السياسي ونزاعاتهم العصبوية والثأرية وجشعهم ومراهنتهم على مصالحهم الآنية.
الرهان اليوم بالنسبة للشعب اليمني -وبالذات للكتل الشابة الباحثة عن مستقبل مختلف ويمن جديد- على التحالف العربي، أما أطراف النخبة التي شكلها نظام صالح فقد سلمت للثورة الخمينية وهي تكتسح صنعاء والمحافظات، وتفاجئوا جميعا بالتحالف العربي ولولاه لأصبح اليوم اليمن التجربة الخمينية الأكثر اكتمالا في المنطقة العربية، لقد غيرت عاصفة الحزم مسار المؤامرة وقضت عليها قبل نموها وغيرت المعادلات في المنطقة كلها، وما زالت الملحمة العربية تدير حربها باليقين والطموح بالنصر الكامل والناجز، وما يؤجل النصر أن القوى اليمنية غير قادرة على توظيف الحسم والعزم العربي لإنجاز المشروع الوطني، وما زال الكثير راضخا لطريقتهم العتيقة في التعامل مع معركة مصيرية لم تعدّ يمنية بل هي معركة لها علاقة أيضا بمستقبل منظومة دول الخليج وبالأمن القومي العربي.
ما زال الواقع اليوم ملتهبا ولدى الناس طموح كبير بتجاوز الانقلاب واجتثاث ثورة الخميني في اليمن باعتبار ذلك المدخل الأول لإيقاف الحرب، ولن يحدث النصر الكامل ويحلّ السلام إلا بتجاوز واقع اليمن المتناحر في الخصومات والنزاع على الغنائم، فالقوى المتنازعة بتنوعها المختلف تدير صراعاتها بوعيها التقليدي ولم تنسجم مع المنظور الجديد الذي أسست له عاصفة الحزم، ولا فرق في ذلك بين أطراف في الشرعية أو أخرى تورطت في مؤامرة الخمينية، ولم تظهر حتى اللحظة ملامح قوة لها كتلة اجتماعية قوية ومتماسكة قادرة على تجاوز القوى التي شكلتها مرحلة النظام السابق لصالح مشروع وطني واضح المعالم.
من وجهة نظري أن الشعب اليمني محظوظ، فالتدخل العربي الحاسم هو المتغير الثوري في إعادة صياغة اليمن الجديد، فهذا التدخل وإن كان ضروريا لحماية الأمن العربي -وبالذات الخليجي- فإن أهميته بالنسبة للشعب اليمني أنه المدخل الأقوى والأكثر فاعلية لإنقاذ الدولة اليمنية وتفكيك للقوى المتعارضة مع بناء دولة اليمن الاتحادي، وسيكون له دور حاسم في إضعاف ومحاصرة شبكات المصالح الفاسدة والمافوية التي ظلت تدير حروبها وما زالت بوعي قديم لم يفقه حاجة الواقع اليمني والعربي ومدخلاته الكثيرة والمتشابكة، ولا شك أن عاصفة الحزم ببعدها اليمني والعربي تعد القوة الأكثر صلابة في مواجهة هذا الخطر الجاثم الذي يهدد اليمن ومستقبله بأجنحته المتعددة.