يكاد يتفق كثيرُ من المحللين والمراقبين على أن السياسة الخارجية للنظام الإيراني هي العامل الأبرز والأهم في إضفاء البُعد المذهبي والطائفي للحروب التي تعصف ببلاد المشرق العربي. صحيح أن الحروب المندلعة في هذه البقعة الجغرافية تأتي نتيجة لعوامل عديدة غير طائفية بعضها يتعلق بالاستبداد (كما هو الحال في سورية) وبالاحتلال الأجنبي (الحالة العراقية)، والبعض الآخر يتعلق بالفساد، والتهميش (الحالة اليمنية)، لكنها اليوم جميعاً بتفاعلاتها، تتخذ لوناً طائفياً ومذهبياً شديد القسوة، وقاسي الوطأة.
إيران في سياستها الخارجية تمد أذرعها سياسياً وعسكرياً عبر استغلال الأقليات الشيعية المتناثرة في المشرق العربي، وهذا بدوره يؤدّي إلى فرز المجتمع بناءً على مكوناته المذهبية ومن ثمّ تهتك نسيجه. لن يقف الأمر عند هذا الحد، ذلك أن هذا الاستغلال البشع سيؤدي بالضرورة إلى تمسك الحركات الأصولية والراديكالية بقضيتها تجاه الاستمرار في أعمال العنف والإرهاب.
هذه الأعمال الإرهابية بقدر فوضويتها، وعدم تحرّزها إلا أنها ستكون طائفية ومذهبية بصورة واضحة، لكونها في كثير من الأحيان تستهدف أتباع المذهب الآخر، وهي في استهدافها لا تفرق بين مدنييه وبين العسكريين في ميليشياته. وهكذا وإزاء هذا الصراع العنيف تتهاوى الدولة الوطنية، وتصبح فاقدة للشرعية والإرادة، إذ ما من شكّ في أن هذه الصراعات والحروب بهذه الكيفية تسهم بدرجة كبيرة في تلاشي الدولة الوطنية أو على الأقل تآكلها. وبلا ريب فإن ارتخاء الدولة الوطنية وهشاشتها في بلدان المشرق العربي يبدو نافعاً للنظام السياسي في إيران ومهماً جداً، إذ هي دولة لا يبرز تأثيرها السياسي في مناطق المشرق العربي إلا حين تضعف أو تغيب الدولة الوطنية بمفاهيمها الحقوقية والسيادية.
من هنا يمكن القول إن انحسار هذا النفوذ وإجباره على التراجع لا يمكن أن يتم إلا من خلال تقوية الدولة الوطنية، علاوة على ذلك ينبغي التنويه بشدة إلى أن نظام ولاية الفقيه في إيران إن كان يرفع عقيرته بأنه المدافع الأول عن المذهب الجعفري في المنطقة إلا أن طابعه الإثني ورغبته الإمبراطورية يعدان أمرين ثاويين يختبئان خلف صورة التشيع المحمولة بدلالات تاريخية مليئة بادعاء المظلومية والتهميش، ذلك أنه ما من شك في أن النظام الإيراني ينطوي على رغبة إمبراطورية حالمة لا تبتعد كثيراً عن رغبات ومطامح الدول التاريخية العتيدة التي قامت في بلاد فارس مثل دولة الساسانيين قبل الإسلام أو الدولة البويهية في التاريخ الإسلامي الوسيط ،علاوة على الصفويين في التاريخ الحديث. هذه الدول كانت دوماً تتخذ من المشرق العربي مسرحاً لمدّ نفوذها، وفرض هيمنتها عليه.
إنّ النفوذ الإيراني أو من يمثّله من ميليشيات، وقادة عسكريين وسياسيين في العراق والشام يبدو مُحاصَراً من القوى الإقليمية الفاعلة والمعتبرة مثل السعودية وتركيا، وهذا الحصار ليس فقط من أجل كونهما دولتين سنيتي المذهب، وإنما من أجل قوتهما الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتطابق سياستيهما الخارجية تجاه ملفات المشرق العربي. الدافع في محاصرة إيران والوقوف ضدها ليس ذاتياً أو غير مبرر؛ بل هو بسبب طبيعة السياسة الخارجية للنظام الإيراني نفسها، التي تعتمد على جعل الأقليات الشيعية كجماعات وظيفية تسهم في تشييد الحلم الإمبراطوري. وإذا كانت السعودية وتركيا تضطلعان بتحجيم الدور الإيراني، والوقوف ضد عادياته، فإن النظام المصري يبدو منكفئاً على نفسه أو لا يحفل كثيراً لهذا الأمر، ويمكن تبرير ذلك بانشغاله داخلياً، وكون الذاكرة التاريخية المصرية لم تطبع وعي المصريين بطابع سلبي تجاه إيران على العكس من تركيا والخليج.
يجب الحديث بشدة عن الأمن القومي العربي، وضرورة التعويل عليه كمبدأ جامع للعرب يمكن الارتكاز عليه ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، فهذا المبدأ يستعلي على الطائفية أو المذهبية، وكما أنه يضع العرب جميعاً قوة واحدة فهو أيضا لا يخلّ بالدولة الوطنية ذات السيادة. هذا في الخارج أما الداخل فمن المهم للغاية التعويل على أن منطق الدولة الوطنية ذات الأبعاد الحقوقية المتساوية تجاه أفراد مجتمعها أياً تكن انتماءاتهم الجهوية والقبلية والمذهبية هو الواجب الأخذ به لا سيما في هذا التوقيت بالذات!