وجدتُ في قراءة التأريخ متعة لا يُساورها ولا يُجاريها في النفس مثلها إلا السعادة الأبدية، وهي صعبة المنال في هذه الدنيا ودونها خرط القتاد، إلا أن تلك المتع النفسية التي تتلذذ بها الذات القارئة للتاريخ تجد أن هناك (Tendency) نزعة وميلا للعنف والقتل والتدمير لدى كل جماعة تلتف حول نفسها وتحيط رجالها ومريديها بسياج يقف عائقا وحاجزا لما يمكن أن يُفكك تلك السياجات والعوائق. وذلك الميل للعنف والقتل واللامبالاة بالدماء البشرية واستحلالها والتلذذ بإهراقها كما لو كانت قربانا للآلهة وهي كذلك في صميم اعتقاد تلك المجاميع، سواء أكانوا أفرادا أم جماعات، ومن هذه الحوادث التاريخية حقائق ووقائع ابن تومرت، فقيه أصولي عالم كما يذكر ذلك عنه المؤرخون. أبوعبدالله محمد بن عبدالله بن تومرت، تتلمذ على كبار الأصوليين، منهم الإمام أبو حامد الغزالي وإلكيا الهراسي وأبو بكر الطرطوسي وهم من أكابر العلماء في الفقه والأصول والمنطق، وتعمق في علم الجدل والمنطق والفقه والأصول وكان مناظرا حادا قلما يقف أمامه من يناظره، وقد علا على كثير من أهل العلم في مناظراته (فجمع متولي فاس الفقهاء، وناظروه، فظهر، ووجد جوا خاليا، وقوما لا يدرون الكلام)، (.. فبعثوا بخبره إلى ابن تاشفين، فجمع له الفقهاء، فناظره ابن وهيب الفيلسوف، فاستشعر ذكاءه وقوة نفسه) وهذه من الإشكاليات المنهجية في معالجة من ينزع للتكفير والتفجير والقتل عند القبض عليهم فإنه يتوجب أن يتصدى لمناقشته ومعالجته من تمرس وتعمق في أصول العلم والفكر شرعيا وفلسفيا ممن لديه خبرة عميقة في سبر أغوار هذا الفكر، وإلا فإن المعالجات قد تكون ضعفا في الرجوع عن الفكر وقوة للنازع للتكفير.
بيد أن النزوع إلى سلاح الانغلاق والتكفير والدماء كان صفة وسيرة لهذا لابن تومرت كما يقول الذهبي: (كان لهجا بعلم الكلام، خائضا في مزال الأقدام، ألف عقيدة لقبها بالمرشدة، فيها توحيد وخير بانحراف فحمل عليها أتباعه، وسماهم الموحدين، ونبز من خالف المرشدة بالتجسيم، وأباح دمه، نعوذ بالله من الغي والهوى)، (لكنه دخل -والله- في الدماء لنيل الرياسة المردية)، (وأقدم على الدماء إقدام الخوارج، ووجد ما قدم)، وهذه الأسس الثلاث هي عمق التفكير الأصلي لجماعات الجهاد الإرهابية المعاصرة مثل تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة وجبهة النصرة وغيرها.
إن الإقدام على الدماء والدخول في دوامتها والاتصاف بالتوحش البشري تسبقهما مرحلة التأسيس وهي الإحاطة بالفكر ثم التأويل للنصوص كي تتوافق مع الواقع المراد تحقيق الرياسة فيه، كما فعل ابن تومرت، ثم عزل الأنصار والمريدين وضخ روح الانتقام من الأقربين، كما ظهر من خلال التقنيات الحديثة تكفيري من أبناء جلدتنا ينتمي لتنظيم داعش يُحرض على قتل الإخوة والآباء والأعمام والأخوال، بل يُحرض على قتل روح الاستقرار والأمن الممثلة في الجهات الأمنية بكل فروعها والقوات المسلحة، فقد كان ابن تومرت يُحرض مريديه حتى إنهم (قتلوا آبناءهم وإخوتهم لقسوتهم وغلظ طباعهم، وإقدامهم على الدماء) بل إنه -أي ابن تومرت- قد جعل قبائل تقتل بعضها البعض وتقع وقعة دماء وقتل كبيرة ثم يُظهر قاعدة التكفير الخطيرة بأن هذا الفعل يدل على صحة الإيمان! وهذا ما تفعله التنظيمات الإرهابية الجهادية التي تتسم بالقتل والتفجير والتوحش الذي تخطى حدود الآدمية، فهذه صور متكررة في عالمنا الإسلامي لذلك الشاب المكتنز بكل إيمانياته الشكلية المحفزة لئن يُلقي بروحه ليدمر ما حولها من أرواح دون تحرير عقله ولو لقليل من الوقت والارتقاء بفكره لنقد الظرف المُسقط على نصوص لها دلالات ومفاهيم قد أغفلها عقله نتيجة حجب تلك الدلالات والمفاهيم عنه بسبب قصوره أو تضليل من دفعه.