اختلف هيجل الذي صبغ النصف الأول من القرن التاسع عشر بفكره الفلسفي، مع كانط في مقدرة أي من العالمين يمكنه الحضور في تفاصيل الآخر، إذ قسم الفيلسوف كانط العالم إلى عالم نوميني (ميتافيزيقي)، وعالم ظاهري وجودي، وقال باستحالة انتقال العالم الظاهري الوجودي إلى النوميني، وإنه لن ينجح في تجاوز الجدار الفاصل بينهما، بينما جاء هيجل ليعكس الأمر، فقال بضرورة وجود العالم النوميني (الميتافيزيقي) في الحضور داخل تفاصيل العالم الظاهري على نحو ما، أي أن العالم الظاهري هو الأولى بحضور العالم النوميني إليه، وهنا نلاحظ أن هيجل نقل الفكر الفلسفي من الدوران الدائم في حلقة الميتافيزيقي ونظرية المعرفة الأبستمولوجي، إلى العالم المادي الوجودي، وأن أولوية الانشغال والتفكير يجب أن تكون في العالم الظاهري وليس الميتافيزيقي الخفي، وهذا ما عُرف بنظرية جدلية التاريخ لهيجل، وهو ما سار على نهجه كارل ماركس لاحقا، وأنجز من خلال الطرح (الهيجيلي) فلسفته التي عرفت بالماركسية.

ويُعد القرن الخامس عشر الميلادي بداية المحاولات الجادة لفك بعض طلاسم المعتقدات، ورحلة البحث عن نوع مختلف من التنوير الفلسفي، إلا أنه لم يكتب النجاح لتلك المحاولات إلا بحلول القرن الثامن عشر الميلادي، وحدث ذلك على يد مجموعة من الفلاسفة الجدد حينها، الذين استطاعوا نقل خط الفكر الفلسفي إلى العالم الوجودي، ليتحول بحث الفلسفة إلى محاولات جادة لفهم المعنى الوجودي البشري، والغوص في معنى وطبيعة الإنسان، وجعل الإنسان محور البحث الأول، بل قالوا بأنه يجب أن يكون المعني الأول في كل أطروحات العلوم الإنسانية على اختلافها وتنوعها، وليس تقديم تلك التهويمات المختبئة خلف ستار الأطروحات الماورائية (الميتافيزيقية) التي تقدمها وتدعمها الفكرة الدينية عند مختلف الثقافات والشعوب.

هذا الطرح الفلسفي الجديد في الواقع، أفضى إلى تكوين منحى فلسفيّ جديد، يتأمل في منطقية بنية وتركيب النظام المتحكم في الحياة الإنسانية، والذي اعتاد الإنسان أن يتبعه دون أن يتحقق من ماهيته أو مصدره أو مصداقيته أو جدواه وفعاليته التاريخية لمصلحة الوجود الإنساني! ليقلب ذلك التغيير الفلسفي الجديد، كل المنطلقات الفكرية الفلسفية القديمة المستمدة من صلب الفكرة الدينية وأبعادها رأساً على عقب في الثقافة الغربية التي كانت تقول وتؤيد سيطرة النظام الجاهز على الواقع والوقائع. ليستبدل المنحى الفلسفي الجديد تلك الفكرة الفلسفية العتيقة، بأخرى ترى دعم المنطق في أن يخلق الواقع والوقائع شكل النظام وأسسه وبنيته وليس العكس، أي أن تكون الوقائع وواقعها السبب الرئيسي في بناء وصنع النظام، وهذا التفكير الفلسفي -من وجهة نظري- قمة المنطق الذي تحتاج إليه البشرية، لفهم واقعها وخلق مستقبلها.

وهو ما أحدث كل التغيرات الجذرية المبهرة في حياة العالم الغربي، وما يعيشه اليوم واقعاً على كل المستويات دون استثناء، لكن العقل العربي والإسلامي لن يقبل بهذه الأطروحات الفلسفية ويسلم بها هكذا، إذ طالما عشق وآمن بضعفه وقلة قدرته على التفكير خارج دائرة الميتافيزيقيا، وهذا ما جعله يفضل فكرة الاتباع على الإبداع والابتكار، وحصره في دائرة النقل أكثر من فضاءات العقل، ولم نقدم يوما التفكير في قيمة التاريخ الوجودي كقيمة تستحق التأمل والاهتمام، لذا لا غرابة أننا بقينا منذ قرون خارج منظومة الحضارة الإنسانية العظيمة، وبدت بصماتنا أصغر في المسيرة البشرية على الدوام، لأننا رفضنا شراكة العقل إلا بشروطنا، وحاربنا الفلسفة في حياتنا ويومياتنا. نحن إذن سبب تأخرنا وسباتنا ومسارح الدماء اليومية على الأرض.