الانتقال بالمذهب من وسيلة إلى فهم فقه وأصول الدين إلى هوية بديلة عن الهوية الجامعة، جعل من المذاهب إسفيناً في خاصرة الوحدة الوطنية. فقد تحلقت كل طائفة حول نفسها، وكفرت غيرها، ورفعت راية المطالبة بـ"حقوقها"، سعياً وراء نيل الحصة الأكبر. وفي ظروف كهذه، تتفتت الأوطان، ويغيب الفعل الجمعي للأمة.
وحين تسعى كل طائفة لنيل حصتها، تنقسم الأوطان، وتغيب فكرة التنمية الشاملة، ويتحول الوطن لكانتونات ضعيفة، يستند كل كانتون على هوية خاصة، وثقافة خاصة. وحتى المراكز الرئيسية في الدولة يتم توزيعها وفقاً لهذا السياق. وبالقدر الذي تتعزز فيه القسمة، وتترسخ الهويات الطائفية، يضعف دور الدولة، وتفقد هيبتها وقدرتها على إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
وإذا كان هذا النوع من القسمة مقبولاً قبل نشوء الدولة الحديثة، فإنه ليس مقبولا الآن، لأنه ضد التطور التاريخي، وما أفرزته مسيرة البشرية من آليات وأدوات ومؤسسات حديثة في الحكم. وليس بالمستطاع تصور وجود نظام تعليمي متطور، أو النهوض بالقطاع الصحي، أو التأمينات والضمان الاجتماعي، في ظل القسمة بين الطوائف. بل ليس بالمقدور، إمكان قيام دولة عصرية، أو الحديث عن الوحدة الوطنية في ظل سيادة الكانتونات الطائفية. كما أنه من غير المتوقع، صمود كانتونات القسمة، في التصدي لأي عدوان خارجي، فضلاً عن اتفاقها على مواجهة هذا العدوان.
ولا يقف الأمر عند هذه الجوانب السلبية للمشاريع الطائفية، فمخاطرها على الوعي لا تقل أثرا عن المخاطر التي أشرنا لها. فالثقافة الطائفية لديها موقفها الخاص من التاريخ، وهي تفسره بالسياقات التي تعزز هويتها الفئوية. تلتحم الجماعة الطائفية بتفسيرات، دينية، من منظورها، كما تلتحم الجماعة بعصبية النسب، في النظرية الخلدونية.
تقدم الجماعة الطائفية تفسيرها الخاص لمنظومة القيم، فيكون لها موقفها الخاص، من التاريخ، بما يحولها إلى أيديولوجيا خاصة للمنتمين لطائفة بعينها. فتتحول الطائفة إلى عقيدة اجتماعية، تؤدي وظائف في تكوين الجماعة، وتحديد أنساق عملها كجماعة متمايزة. وتصبح الطائفية بديلا عن هويتها الوطنية.
بهذا المعنى، يكون الانتماء الطائفي، في مقام الدينامية التي تتشكل بها الجماعة، وتنظم حركتها.. وتؤدي الطائفية -بما هي مجموعة اجتماعية- إلى خلق حالة من الالتباس في العلاقة بين الفرد والدولة والسياسة، بما يجعل من نقدها أمرا مشروعا.
وللأسف فإن الهويات الطائفية، ليست خارح الوعي، بل إن كثيراً منها صمم ليخدم أغراضاً سياسية، وبعضها هو نتاج لنوازع ثأرية سكنت عميقاً في نفس أمم اعتنقت الإسلام عقيدة، حين بلغتها جحافل الفتح العربي، ودخلت بلادها في الإسلام.
دخلت هذه الأمم الإسلام، ولكن انتماءاتها القومية، وشعورها بتفوقها على العرب، شكلا في اللاوعي، قراءات أخرى، غير موضوعية، متحيزة ومزيفة للتاريخ العربي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كل طائفة لها رؤيتها الخاصة، وقراءتها الخاصة، وأن هويتها وثقافتها وطقوسها وأحزانها وأفراحها، أخذت بالتشكل من خلال هذه القراءة، أمكننا التوصل إلى وجود جملة من القراءات، والنتيجة هي تشويه التاريخ العربي الإسلامي.
ولأن التاريخ هو روح الأمة، وجغرافيته هي محتواها، فإن تشويه التاريخ العربي، يعني في محصلته تشويه روح الأمة. ولذلك يصبح التصدي للطائفية دفاعاً عن الأمة ومواريثها. وليس من شك في أن مواجهة الكانتونات الطائفية تتطلب تعميم نقيضها. والعمل على تعميم فكرة الدولة الحديثة، دولة المواطنة، حيث المعيار الأساسي فيها المساواة بين المواطنين، وتأسيس العلاقات السياسية الحاكمة، على قاعدة هذا المعيار.
يجب التأكيد في هذا السياق، على أن الانتماء المذهبي، يقع خارج المجال الاجتماعي والإنساني. أما الطائفية، فإن خطرها يمكن في أنها تحيل إلى جماعة اجتماعية وتاريخية. فليس هناك انسجام بين وظيفة الدين وظيفة الطائفية، على النحو الذي يزعمه منظرو الطائفية في دفاعهم عنها. فللطائفية وظيفة سياسية، ودورها الأساس، تفتيتي، لأنها تقسم الوطن إلى حصص، بينها وبين الجماعات الأخرى. وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الطائفية كنظام سياسي، لا توفر حلا لمعضلة السلطة والشراكة. فنتائجها المنظورة أكدت أنها قنبلة موقوتة للاحتراب الداخلي، وأنها لم تسهم في توفير أي مساحة للتوافق بين أبناء المجتمع الواحد.
صحيح أنها تخفي في بعض الأحيان صراعات مكبوتة، لكن هذه الصراعات ما تلبث أن تنفلت في صور أعتى. بحيث إننا نلحظ تصاعدا مستمرا في الخط البياني، للصراعات، في الدول التي اعتمدت حل التقسيم الطائفي لمعضلتها السياسية. ثم إن هذا التقسيم يحمل اعتقادا مضللا بغياب التجانس الوطني، بما يؤثر على صلابة هياكل الدولة، والوظائف المنوطة بها.
غلبة الجماعات الطائفية تصادر الشعور بالانتماء إلى كيانية أعلى هي الوطن، الذي ينبغي أن يكون أعلى من نصاب الطائفة، وأرحب من حدودها الضيقة والمقفلة. وذلك ما يسهم في إلغاء فكرة المواطنة، التي لا تحتاج إلى وسيط بين المواطن والدولة.
المواطنة علاقة مباشرة بين المواطن والدولة، وهي لذلك تسقط بوجود الوسيط، أيا تكن ذرائعه. ولذلك ترفض الدول الحديثة الاعتراف بوجود جسد طائفي، سياسي أو حقوقي، يتوسط بين المواطن والدولة. إن الحديث عن الحق الطائفي في التربية والتعليم الخاص، والتمثيل في الوظائف وفي الحكومة، على أساس الحصص، يعني أن علاقة المواطن بالدولة ليست علاقة مباشرة، في جميع الميادين، وأنها بحاجة مستمرة إلى وسيط، وذلك ما يشكل خللا كبيرا على الوحدة الوطنية، واستقرار وأمن وازدهار البلاد.