يقال إن نابليون الثالث قدم أواني الألمنيوم في بعض مآدبه إلى الضيوف الأكثر شرفاً بالنسبة له، بينما دعا الآخرين إلى استعمال أواني الذهب! ولا غرابة في ذلك، فالألمنيوم في ذلك الوقت كان أغلى من الذهب بالفعل.
على الرغم من أن الألمنيوم يعد أكثر العناصر وفرة في القشرة الأرضية، إلا أن البشر لم يتوصلوا إلى تقنيات تستخرجه بشكل منقى من خاماته إلا في منتصف القرن التاسع عشر. فالألمنيوم لا يوجد بشكل منفرد في الطبيعة لاتسامه كيميائياً بسرعة الاتحاد مع الأكسجين، حيث لا يتوافر في هيئته الخام إلا ضمن أكاسيد أو سيليكات.
اهتدى الكيميائيون في البداية إلى طرق مكلفة للغاية تؤدي إلى إنتاجه بشكل نقي، ولعل هذا ما حصر استعماله في تلك الفترة في أغراض الزينة والمباهاة. ولكن سرعان ما تطورت تقنيات إنتاجه باستخدام مهابط التحليل الكهربائي حتى غدا هذا المعدن الشائع الرخيص الذي نعرفه الآن وتحيط بنا تطبيقاته الصناعية في كل مكان.
يبدو أن لدينا اليوم قصة تتشابه بداياتها بقصة الألمنيوم، وهي قصة (النفط الصخري)، فهذا النوع من النفط موجود في الطبيعة بكميات تفوق وجود النفط المعروف بكثير، ولكن ما أدى إلى تأخر تأثيره الاقتصادي هو ارتفاع كلفة استخراجه في هيئة نقية تيسر استعماله للوقود. أدى ارتفاع ثمن النفط الذي شهده العالم في السنوات الأخيرة إلى عودة التفكير في استغلال هذا المورد فقد أصبح من المجدي إنتاجه في ظل هذا الارتفاع وهذا ما شجع بعض الشركات الأميركية على الاستثمار فيه ومنافسة النفط التقليدي المعروف.
لعل دخول هذا المنتج الجديد من أهم العوامل التي تدعو الدول المصدرة للنفط إلى الامتناع عن تخفيض إنتاجها، فهناك رهان يقول إن شركات إنتاج النفط الصخري لن تصمد كثيراً في المنافسة تحت سقف الستين دولاراً للبرميل الواحد، وهو ما يشكّل أقل الأسعار تحقيقاً لجدواه الاقتصادية بالنظر إلى تكلفة تقنيات إنتاجه.
عيب هذا الرهان في الحقيقة يكمن في النظر إلى التقنيات المستخدمة حالياً وتجاهل التطور المتوقع، وهو ما لاحت بوادره بالفعل سواء ضمن إطار (تقنية التكسير الهيدروليكي) المتبعة اليوم، أم خارج ذلك الإطار مما يدور في معامل العلماء الكيميائية.
هناك من يرى في هذه الأخبار جانبها السيئ، ولعله محق في ذلك بالنظر إلى الأثر السلبي المنعكس على قيمة سلعتنا الاقتصادية الرئيسة. ولكن ألا يحق لنا التساؤل حول ما تحمله هذه الأخبار من جوانب إيجابية؟
أليس من الممكن أن يسهم هذا الصعود لأهمية النفط الصخري في دفعنا إلى التحول الاقتصادي من الاعتماد الكامل على سلعة ناضبة إلى تنمية مجالات استثمار أخرى لم نكن مؤهلين لها كما نحن مؤهلون الآن؟
تمتلك بلادنا كثيرا من المقومات نحو تحقيق اقتصاد إنتاجي في هذه اللحظة. نسبة الأمية في السعودية تقترب من الصفر، فضلاً عن أن أغلب مواطنيها يندرجون تحت فئات عمرية فتية، كما أن نسبة المجيدين للتعامل مع التقنيات الإلكترونية مرتفعة مقارنة بالمعيار العالمي العام. يضاف إلى ذلك امتلاك البلاد احتياطات نقدية عالية من الممكن استثمارها في المستقبل القريب.
صعود هذا المنافس الجديد قد يؤدي إلى تخفيف ضغط العوامل الجيوسياسية التي تطوق منطقتنا الآن، ذلك الضغط الذي كثيراً ما تخوّف المراقبون من أن يؤدي إلى تغيرات دراماتيكية قد لا يقل خطرها عن خطر نضوب مفاجئ لنفط المنطقة أو استغناء مباغت عنه.
لماذا لا يكون دخول هذا العنصر إلى المعادلة بمثابة "فرصة تنكّرت على شكل أزمة" لتنبهنا وتأخذ بيدنا نحو تحقيق تنمية اقتصادية علمية صناعية مستدامة في ظل حيز كافٍ من الوقت قد لا تجود بمثله الظروف مستقبلاً؟
العنصر الناظر إلى الاستدامة عنصر لا يمكن إغفاله في أي عملية اقتصادية سليمة، وهو أشد ما يكون من الأهمية عند الحديث عن اقتصادات الأوطان، فباستبعاده لا فرق كبير بين الدول ومخيمات أعدّت للكشتة المؤقتة.
يروى أن الاقتصادي المعروف (ميلتون فريدمان) شهد حفر قناة ضخمة في إحدى الدول الآسيوية ولكنه لما لاحظ اعتماد العمل على المجارف اليدوية وليس على المعدات الآلية لنقل الأتربة عبر عن تعجبه من ذلك؟ عندها أجابه بعض مستقبليه بالقول: إن الهدف من ذلك هو توفير أكبر قدر ممكن من الوظائف! فما كان من فريدمان إلا أن قال: حسناً، اعتقدت أنكم تحاولون حفر قناة، ولكن بما أن هدفكم هو توفير الوظائف فاستخدام ملاعق الطعام أكثر جدوى مما تفعلون!
إن العنصر الذي أغفله من تعرضوا إلى سخرية فريدمان هو عنصر الاستدامة، ولعلهم جديرون بها بوجه من الوجوه. ولكن ماذا عنا نحن هل سنعمل على إنشاء قناتنا المستدامة بشكل عاجل أم ستطول نقاشاتنا حول المجارف والملاعق وأحجامها؟