من الواضح أن المبادرة الكريمة التي تجعل من المصالحة العربية أساسا لرؤية سياسية عربية اختطها خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت الاقتصادية، لم تكن تتعلق فقط بالأوضاع فيما بين دول المنطقة، بل هي تتضمن تطلعا يهدف إلى جعل المصالحة أساسا للعمل السياسي الداخلي العربي وضمانة للاستقرار، وبخاصة في الدول العربية الشقيقة التي تضم طوائف قد يمثل صراعها تهديدا لمستقبل بلدها، وبالتالي تهديدا لاستقرار المنطقة العربية.
في الوقت الذي يفترض فيه بالعراق أن يكون قد أغلق ملفات الترتيب السياسي لبيته من الداخل واتجه إلى ملفات التنمية والأمن والاقتصاد وبناء المستقبل، مازال العراقيون في دوامة فراغ سياسي، يوشك أن يعصف بكل ما هو مأمول لعراق جديد، يمثل ذلك الفراغ جذبا لكل العوامل المؤثرة سلبا فيما حققه العراق من مكاسب، ليس من أقلها حالة الهدوء النسبية على المستوى الأمني، وخفوت أصوات التفجيرات والسيارات المفخخة التي كانت مظهرا يوميا في كل مدن ومحافظات العراق.
بات من الواضح أن الملفات العالقة بين القوى السياسية في الغالب لا ترتبط بشكل مباشر بملفات التنمية والبناء والمستقبل التي غالبا ما تمثل محورا في مختلف الفعاليات الانتحابية في كل دول العالم، ولكن العقدة الأبرز تتمثل في الطائفية والانتماءات التي ستمثل التحدي المستقبلي الحقيقي للعراق، وستحدد مستقبله، وهي العقدة التي جعلت من العراق ملفا طائفيا أكثر من كونه مستحقا لأية صفة أخرى، خاصة مع ما أثبتته السنوات الماضية من وجود كتل ورؤى سياسية عراقية لا يمثل العراق بالنسبة لها محور الانتماء الفعلي.
لقد هللنا كثيرا، ونحن نتابع مختلف محطات الانتخابات العراقية، وما كانت تحويه من مناخ سياسي جديد في العراق، ومحفز على الإيمان بواقع جديد أكثر صوابا، وأكثر انتماء للعراق ولأرضه ولمستقبله، إلا أن ما وصل إليه المشهد العراقي الآن، وما يعيشه من اقتتال سياسي يزداد تعقيدا، يثبت لنا أن ما يحدث يمثل جانبا مما تقع فيه الحياة العربية حين تقوم بممارسة فعالية مدنية حديثة، إذ يطغى البعد الظاهري الشعائري للممارسة، على ما تتضمنه من قيم حقيقية، فيصبح ظاهر الفعل ديموقراطيا بينما نتائجه ليست كذلك على الإطلاق.
ولأن العراق لم يعد ملفا داخليا، ولأن العوامل الخارجية هي الأبرز تأثيرا في ما يعيشه العراق الآن من اقتتال سياسي واضح، يدرك الملك عبدالله بن عبدالعزيز وضمن سياق مشروعه السياسي العربي القائم على المصالحة كقيمة وكأداة وكمطلب سياسي عربي؛ أن ذلك هو الضمانة الأبرز لتحقيق الاستقرار كواقع وطني لدول المنطقة، يؤهل بدوره للبحث عن استقرار يشمل المنطقة، ولذا جاء النداء الملكي الواعي الذي وجهه خادم الحرمين للقيادات العراقية وللشعب العراقي.
جاء النداء الذي وجهه خادم الحرمين من خلال لغة عالية ومؤثرة جدا في مخاطبتها للوجدان العربي، وللوجدان العراقي تاريخا وحضارة وثراء إنسانيا يفترض به أن يمثل حافزا لكل عراقي على حماية تلك المقدرات التي رغم ما مر بها من عواصف وحروب إلا أنها في كل مرة تنتج عراقا حيا وقادرا على النهوض من جديد، هذا على مستوى الإنسان العراقي العادي، لكن الأزمة تصبح أكثر فداحة ومغامرة بالمستقبل العراقي حين يكون الانقسام بين القوى السياسية، وحين يتحول ذلك الانقسام إلى صراع أوصل العراق إلى واحدة من أغرب حالات الفراغ السياسي.
لقد جاء نداء الملك مؤسسا على رؤية سياسية وأمنية تدرك بأن قوى سياسية في العراق تعيش شيئا أشبه ما يكون بمعركة ولاءات أثرت على العراق كثيرا، وستواصل تأثيرها السلبي إذا ما بقيت تدور في ذات دوائر صراعها، الذي هو وفي كثير من جوانبه ليس صراعا من أجل العراق، وهو ما جاء واضحا في خطاب الملك حين قال (إن وحدتكم وتضامنكم وتكاتفكم قوة لكم ولنا، ومدعاة إلى لم الشمل، والتحلي بالصبر، والحكمة، لنكون سداً منيعاً في وجه الساعين إلى الفتنة مهما كانت توجهاتهم ودوافعهم، ولتتمكنوا من إعادة بناء وطن الرافدين الذي كان وسيظل- بإذن الله- مع أشقائه العرب حصناً حصيناً ضد كل فرقة، أو فتنة، أو عبث لا يستفيد منه غير أعداء الأمة).. يتكامل هذا الجزء من النداء الملكي مع ما يأتي بعده حين يقول (إن الدور الملقى على عاتقكم سيكتبه التاريخ، وستحفظه الأجيال القادمة في ذاكرتها، فلا تجعلوا من تلك الذاكرة الفتية حسرات وآلاماً وشقاء)، ذلك أنها واحدة من أكثر فترات العراق التي ستؤثر في مستقبله، فالقضية الآن ليست فقط في انتهاء الأزمة الحالية، وإنما في إنهائها بما يخدم العراق حاضرا ومستقبلا.
إن القوى السياسية العراقية التي تستوعب خطورة ما يحدث، هي تلك التي جاء ردها على المبادرة الملكية السعودية، ردا إيجابيا ومدركا لأهمية إقفال هذا الشقاء السياسي العراقي، وبالمقابل، فالذين يخشون من أن تكشف مثل هذه المبادرات ولاءات غير عراقية لديهم سيقابلونها بما لن يحمل نفعا للعراق ولا لمستقبله.
في الواقع إن المبادرة السعودية تحمل من الشهامة السياسية، والدوافع النبيلة الساعية للمصالحة والاستقرار العراقي، ما يجعل منها فرصة كبرى، يتوجب على جميع القوى العراقية الرامية إلى عراق آمن ومستقر أن تستفيد منها، وأن تستثمرها بكل شكل ممكن، ذلك أن العراق الآن أمام فرصة تاريخية إما أن تعيد بناءه، أو أن ترمي به بعيدا خارج محيطه وخارج تاريخه أيضا.