من وقت لآخر يكتب الشيخ إبراهيم السكران مقالات لتُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وكثيرا ما تحتوي على الوعظ والنصيحة التي يُلمس فيها صدقه وصفاؤه، وإن كنت أختلف معه في بعض أطروحاته، وقد ترددت في الكتابة عن مقالاته، خصوصا أنه صديق عزيز، ولولا الرغبة في إثراء الساحة بشيء قد يكون مفيدا لما كتبت، وأرجو أن يتسع صدر الشيخ لهذا الحوار.
كتب الشيخ مقالا بعنوان "دعاة التبنيج"، ولا أعرف مَن يقصد مِن الدعاة، ولا يعنيني ذلك، وإنما أريد التركيز على فكرة طالما رددها الشيخ في مقالاته ستتضح في ثنايا هذا المقال.
نقل الشيخ في مقاله حوارا بينه وآخر: "قال لي: مسائل كثيرة كنا نظنها محسومة، ثم اكتشفنا فيها خلاف. قلت له: بل كنت تعرف سابقا الخلاف، لكنك كنت تبحث عن الراجح، واليوم تبحث عن التسويغات"، وهو يشير - فيما يبدو- إلى أن الشخص الذي حاوره كانت نيته صافية في بحثه عن الراجح من الخلاف، بينما هو اليوم يبحث عن التسويغات باستخدام الخلاف الفقهي ليُسوّغ لنفسه فعلا فيه خلاف. ولكن السؤال؛ هل كان مجرد اتباعه للقول الذي يتبعه الشيخ إبراهيم أو مجرد اتباع القول السائد يعتبر صاحبه صادقا ومتبعا للراجح؟ وكيف كشفنا عن قلبه؟ هل مقتضى التجرد لله تعالى أن ندعو الناس إلى اتباع النص الشرعي حسب اجتهاد المُتّبع وديانته لله حتى لو خالف رأينا، أم مقتضى التجرد والصدق هو فقط في اتباع آراء تحبذها النفس والأقوال السائدة؟
كرر الشيخ هذا المعنى في مقاله وقال: "لا أجد في نفسي حماسا لمناقشة بعض المتحدثين بمسائل الخلاف، لأن سلوكه في الاختيار بينها يكشف أن القضية ليست ترجيحا علميا، بل ميول ورغبات"، وأعيد السؤال؛ هل كلفنا الله في أن نكون أوصياء على الخلق ونحكم على نواياهم، أم أن مقتضى التجرد لله تعالى هو عدم الاعتداء على حق الله تجاه عبيده بأن كل إنسان يبحث عن الحق حسب اجتهاده وديانته؟ خصوصا في القضايا الاجتهادية.
الصدق والإخلاص من العبد برأيي هو اتباع ما يراه هو حقا وصوابا، وليس مجرد التقليد والاستسلام لآراء الآخرين في أمر لم تحسمه النصوص، كما أن مقتضى العبودية من أولئك الآخرين هو عدم الاعتداء على حق الله على عبيده في إكراههم على رأي اجتهادي تختاره النفس، وقد يكون للبشر فيه تدخل ونزعة، إلا إذا كان الشيخ ممن يرى وجوب التقليد الفقهي الأمر الذي اجتمع العلماء على إنكاره وأنه طعن في حق الله على عباده بأنه هو ورسوله عليه الصلاة والسلام المصدران الوحيدان للتشريع.
وفي هذا المعنى جاء حديث "وإذا حاصرتَ أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله؛ فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا"، والحديث يشير بوضوح إلى التفريق بين الاجتهاد والحكم الشرعي الثابت، فالاجتهاد مهما كان يبقى جهد بشر يقبل الخطأ والصواب، وعندما ينسب الإنسان لاجتهاده أنه هو حكم الله؛ فإنه بلا شك يعتدي على حق الله تعالى في التشريع، كونه ينسب لرأيه الاجتهادي قداسة حكم الله الذي لا يتطرق إليه الخطأ والصواب.
الله تعالى يقول: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، ونلاحظ هنا أن الله تعالى قيّد السؤال بعدم العلم فقط، وكذلك في قوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول"، حيث جعل الرد لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فقط عند التنازع والخلاف، ولم يأمر بالرد إلى أحد سواهما، فهما المصدران الوحيدان للتشريع كما هو معلوم، وليس لأحد سواهما ادعاء قداسة آرائه واجتهاداته طالما لم يدل عليها النص الشرعي بالقطع واليقين من خلال أدوات الاستدلال المعروفة لدى علماء الأصول والفقه، أما ما سوى ذلك؛ فإن ادعاء قطعية الآراء الاجتهادية نوع من تقديس الذات وطعن في العبودية والصدق فيها برأيي.
ثم ذكر الشيخ عبارة في آخر المقال؛ "لاحظت أن الجينات المشتركة بين كل الشباب الذين انحرفوا فكريا هي (وَهْم الوعي والاطلاع)، ثم رأيت الله يقول: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض)"، ولي تعليقان هنا على الصديق الشيخ إبراهيم؛ الأول تمنيت منه عدم إطلاق وصف "الانحراف" بهذا التسرع، كونه قد يُفهم منه تزكية النفس وادعاؤها الكمال، كما أن هذا الحكم يشتمل على وصف لآخرين لا يمكن لأحد أن يحكم به سوى المطلع على السرائر والنيات، طالما أنهم في إطار الخلاف الاجتهادي. والثاني: الاستدلال وإسقاط الآية التي تتحدث عن صرف الله لأناس متكبرين في الأرض على أشخاص سماهم "دعاة"، فيه نوع من الحكم المشتمل على حق الله تجاه عبيده، فلا يطلع على السرائر إلا الله يا شيخ إبراهيم، كما أن مثل هذا الإسقاط يمكن أن ينعكس على الشيخ إبراهيم نفسه، فبالإمكان إسقاط آيات أخرى أيضا عليه طالما انتهجنا هذا النهج الذي يتجاوز الظواهر إلى السرائر وحكم الله على الناس.
النفس البشرية بطبعها تكره كل جديد وغير معتادة عليه، لأنها تشعر بأن القديم يعني لهم مسألة وجود وبقاء الكيان، ولا تقبل أي شيء يعني أنها كانت على خطأ مثلا، ولذلك نشاهد حتى علماء متعصبين وما زالوا يتمسكون بعبادة البقر والشجر لنفس السبب! لأنها باختصار تعني لهم مسألة الوجود والبقاء وسيتعصبون لها، ولكن هذا الأمر غير مقبول منا نحن المسلمين أن يكون مقياس الحق لدينا الآراء الشخصية أو السائدة.
أخيرا أقول؛ ما الرسالة التي يريد إيصالها الشيخ إبراهيم إلى قرائه؟ الحقيقة تأمّلت كثيرا في عدد من مقالاته، وألاحظ من الشيخ أنه يستخدم هذا الأسلوب كثيرا، في وقت أكثر ما نحتاج فيه إلى المراجعة والتصحيح لذواتنا قبل غيرنا، كما نحتاج فيه إلى تخفيف الاحتقان والتشدد ضد بعضنا بعضا، والبحث في المشتركات وعدم التضييق على الآخرين في آرائهم وأفكارهم، وأكرر رجائي للشيخ اتساع صدره لهذا الحوار.