إن اهتمام الدولة الواضح باستعدادها الدائم لتوفير الأموال اللازمة لتعزيز مسيرة إصلاح التعليم يستحق الثناء، ولكن، يجب أن تتنبه أيضا ولا تنقاد خلف وهج الحلول التي تقدم بينما هي ليست سوى علاج سريع لمشاكل أكاديمية، متغاضية عن غيرها من المشاكل العميقة المنبثقة من قلب قضايا المجتمع، ولها تأثير ليس فقط على التعليم بل على مسيرة الإنتاج كوطن ومواطن.

فعلى مر السنين أثبتت الدراسات التربوية أن القضايا الاجتماعية مثل الفقر، والبطالة، وعدم توفير التأمين الصحي، هي من أسباب اتساع أو تواجد الفجوة بين استيعاب وعطاء أبناء المدارس من الطبقات الغنية والوسطى وأبناء الطبقة الفقيرة، لصالح الأعلى طبعا، وقد تحدثت سابقا أن الحل ليس في يد نخبة معينة، بل يجب أن يكون عملا مشتركا يخطط وينفذ بتناغم ودقة وعلى نطاق واسع، أي بالتنسيق مع الجميع؛ أولياء الأمور، والهيئة الأكاديمية، والقادة المحليين، والمهنيين، والطلبة، بحيث يكون الجميع على دراية وفهم لما يتطلبه دورهم وماذا يترتب على مشاركتهم بالنسبة لهم وبالنسبة للمجتمع ككل.

خطوات بسيطة يمكن أن تبدأ بها الدولة مثل تقديم حوافز مالية للمشاركين خاصة حين، تنتدب المعلمين من ذوي الخبرات والقدرات العالية للعمل في مدراس المجتمعات المحرومة أو الفقيرة، فكلنا يعلم كره أو ضيق الكثير من الهيئة الأكاديمية من العمل في بيئات كهذه ومطالبتهم المتكررة بالنقل إن حدث، لا سمح الله، وتم تعيين أحدهم فيها، وكأن أبناءها أو بناتها من كوكب آخر! ولن أذهب بعيدا، فقد حدث أن رفضت إحدى المشرفات على تدريب طالبات التربية العملية التوجه لإحدى المدارس التابعة لمجموعتها، فقط لأن المدرسة لم تكن تحمل شعار خمس نجوم، أضف إلى ذلك بعدها عن سكنها!

ماذا يحدث لو أنه تم تحديد أكثر من مدرسة في كل منطقة، تعمل كمراكز خدمة مجتمع، أي تقوم بإطالة ساعات اليوم الدراسي، ومن خلال ذلك تقوم بتوفير خدمات صحية ليس فقط للأطفال بل للأسرة أيضا، من خلال تقديم برامج صحية توعوية للأم خلال فترة الحمل، والطفل منذ دخوله مرحلة الحضانة إلى أن يتخرج من الثانوية، بما أنه أصبح اليوم من الصعب التحصل على خدمات كهذه، إن لم يكن ماديا ، فبسبب قلة توافر هذه الخدمات مما يجعل الفرد ينتظر لأشهر فقط من أجل موعد، وهو وحظه، أو و"واسطته" إن وجدت! لقد أصبح من الضروري العمل على إنشاء مراكز كهذه في مدارس الأحياء الفقيرة، من أجل أن تعمل أيضا على تقديم وجبات مغذية للأطفال والتلاميذ، وبنفس الوقت تشارك في بناء وتطوير وتنفيذ برامج وأنشطة لامنهجية تقدم بعد الدوام المدرسي، وخلال الإجازات السنوية، لكي يفتح المجال أمام المحرومين من الخبرات التي تثري وتعمل على بناء الشخصية بشكل أكثر شمولية، تماما مثل ما يوفر أصحاب الطبقة المتوسطة والغنية لأبنائهم بعد الدراسة أو الإجازات، التسجيل في برامج تأهيلية في الأندية والمعاهد أو السفر، أمور قد تمر بنا على أنها مجهودات ذاتية وإضافية يقوم بها أولياء الأمور ولكنها تعزز اتساع الفجوة من ناحية التحصيل الأكاديمي والنمو الشخصي بين أبناء هؤلاء وأبناء هؤلاء بينما جميعهم أبناء وطن واحد وأصحاب حق واحد للحصول على أفضل ما يقدمه التعليم من جودة عالية وشمولية في الخدمات، ثم ماذا يحدث لو أن شراكات أقيمت بين المدارس، الجامعات، الصناعات، والمؤسسات الخاصة الخدمية وغيرها، تحدد من خلالها احتياجات الجهتين؛ السوق والطلبة، للعمل على توفير الخبرات التي تساهم في تحصلهم على الوظائف في السوق المحلي المباشر، بدلا من التنقل أو الهجرة إلى مناطق بعيدة من أجل العمل؟

الآن ماذا لو أن شخصيات قيادية مثل "أحمد الشقيري" و"طارق السويدان" و "نجيب الزامل" و"صباح عون" و"لبنى العليان" و"فريدة الفارسي"، بضعة أسماء قفزت إلى مقدمة ذاكرتي مع الاحتفاظ بمكانة الكثير غيرهم، والقائمة طويلة ولله الحمد، ماذا لو أن كل واحد أو واحدة يبني إحدى هذه المدارس؟ أقصد التي حددت كمراكز لخدمة المجتمع، والعمل على الارتقاء بها من خلال تجنيد من يعرفونه قادرا على المساهمة المادية، والمعنوية، والروحية، والنفسية، مشروع خدمة مجتمع، على مدار عام يساهم بها في إغلاق الفجوات وليس فجوة واحدة فقط، تسلم بعدها ويتم الانتقال لغيرها في العام الذي يليه، بالطبع سوف نرى ارتفاعا في التحصيل الأكاديمي، وانخفاضا في معدلات التسرب، ومعدلات التعديات الأخلاقية أو السلوكية التي تؤدي بالشباب وقبلهم المراهقون إلى الخروج عن قوانين المجتمع والدولة، لأنه فرق حين نزور ونتحدث مع أبناء مدراس خاصة لفئات معروف عنها أنها من الطبقة الغنية أو الوسطى المقتدرة، تقدم لهم أفضل سبل التعليم لكي يتم اكتساب القيم والقدرات والمهارات، وحين نهتم بمن لا يمتلك قوت يومه، ولكن له نفس الحق في التعليم كمواطن .. كإنسان، والآن لن يتم ذلك فيما لو تحرك أحدهم للمغامرة، إن لم تدعمه الدولة بقطع شرائط البيروقراطية والعقبات الزئبقية التي لا تدري من أين تظهر وحين تريد تحديدها تختفي مؤقتا إلى أن تظهر ثانية وترفع ضغط كل من يريد أن يساهم في مشروع كهذا، لمصلحة من ومن أجل راحة ضمير من تتضخم الطلبات التعجيزية؟ لا أدري! ولكن لكل مشكلة حل، إن تعاملنا معها كما نتعامل مع إيجاد حلول لمصالحنا الشخصية، بالإرادة والإصرار، والنفس الطويل.

وعليه حين نبني الخطط والبرامج، يجب أن نتنبه إلى أنه لا يمكن فصل أي خطة تربوية شاملة عن التعرض للمشاكل الاجتماعية والصحية والفكرية، بحيث تركز الأكاديمية فقط على تجهيز الطلبة لاختبارات مثل القدرات وما شابهها، من أجل المرحلة الجامعية. التعليم ليس من أجل دخول الجامعة؛ التعليم هو من أجل دخول الحياة، وحين نعترف بذلك أو نرى ذلك نكون قد بدأنا السير في الطريق الصحيح.