انتقل دور المثقف من التأثير الواسع إلى المحدودية، خاصة في الفئة التي تتماس مع أفكاره وطروحاته، مع بقاء احتمال رفض أفكاره وطروحاته بدايةً، حيث وجد كثير من المثقفين أن النخب المضادة لدورهم في مجتمعاتهم تحاربهم، لكن ما يلبث المجتمع أن يتبنى هذه الأفكار بحذافيرها في مرحلة لاحقة، على اعتبار أن المجتمع يتطور فكريا -ولو ببطء- في عالم متسارع حضاريا.
بعد خمس سنوات من بدء ظاهرة "الربيع العربي"، يمكن قراءة الظاهرة بأنها سياسية لا ثقافية، فالمجتمعات التي مرت بالتجربة فقدت حضورها الثقافي والحضاري لصالح الصراع السياسي والمشكل الاقتصادي فحسب، وبالتالي انحسر دور المثقف العربي نتيجة عدة أسباب كان "الربيع" أحدها، على الرغم من أن المثقف الفرد في العالم ككل قد فقد دوره الطليعي والمؤثر لمصلحة العمل المؤسسي، إذ أصبحت المؤسسات ومراكز البحوث هي البيئة الخصبة لانطلاق الأفكار والنظريات والمبادرات، غير أن التاريخ ما زال يحفظ للمثقف الدور الذي قام به على مرّ العصور، وإن انحسر وقلّت مساحته.
وازدادت صورة المثقفين العرب ارتباكا خلال فترة "الربيع العربي"، وذلك لسببين:
الأول: هو طبيعة الحضور النخبوي للمثقف وبالتالي محدودية حضوره المجتمعي المباشر، سيما في ظل وجود قيادات سياسية ودينية ذات تأثير مباشر، فهذه القيادات تستطيع خلال هذا الحضور المباشر القفز على جهود المجتمعات لقيادتها.
الثاني: هو موقف المثقف العربي نفسه، وأقصد بذلك ريبة بعض المثقفين من ثورات "الربيع العربي"، وترددهم حيالها، إذ إن بعض المثقفين كانوا صريحين بتفضيل الوضع السياسي القائم على البديل المجهول والتغيير غير المحسوب، وذلك بمبرر أن القادم أسوأ؛ فأصبح المثقف في هذا الإطار بين مطرقة الثورة وسندان السلطة، ومع ازدياد حالة الاستقطاب الحادة، وجد المثقف نفسه في عاصفة "الفرز" الذي يتبناه الجانبان على أساس أن من "لم يكن معنا فهو ضدنا".
في هذا الصدد، نتذكر أن الناقد العربي المصري جابر عصفور، انسحب -وفق مبرر وضعه الصحي- من الحكومة المؤقتة التي شكلها نظام حسنى مبارك بعد إعلان اسمه وزيرا للثقافة، ويبدو أن عصفور قرأ المعادلة وقرر الانسحاب من المشاركة في حكومة يثور عليها شعبها؛ لأن المؤشر العام لثورة "25 يناير" حينها كان يتجه إلى التصعيد لا إلى التهدئة، فانسحب بدبلوماسية لم يعلن خياره سواء مع السلطة أو الثورة.
كما أن من أكثر الأسماء التي سببت جدلا على المستوى العربي، الشاعر والكاتب العربي السوري "أدونيس"، والذي وجد نفسه أيضا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الوقوف مع الثورة السورية التي لم يُعرف حينها ما ستؤول إليه، أو تكريس الواقع المعاش وهو النظام السياسي الموجود، والذي يمثل واقع الحال.
وخلال الربيع وجد كثير من المثقفين أنفسهم في منطقة لا لون رماديا فيها، إذ لا بد من إيضاح الموقف من ظاهرة الربيع، خاصة بعد أن تكشفت أوضاعها بعد عام، ونتيجة هذه الخيارات تغيرت صورة المثقف العربي أمام الرأي العام، فأصبح قبول جهده الثقافي مرتبطا بمواقفه السياسية!.
فالمجتمعات العربية لم تتقبل من المثقف العربي أن ينبذ الاستبداد وينظّر له وينتقد السياسات القائمة، ثم تجد منه موقفا غير مؤيد لها، وهذا أمر مبرر في ظاهره، غير أن السنوات الخمس التي أعقبت الربيع كشفت مآلاته "الصيفية" اللاهبة، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وقد اتضح للمثقف وللعامة -بعد التجربة الثورية- أن البديل عن الأنظمة القائمة في تلك الدول العربية خياران لا ثالث لهما: إما جماعات "الإسلام السياسي" أو الفوضى. وبعبارة أخرى: إن الخيار المطروح كان زوال السلطة العسكرية/السياسية، وحضور السلطة الدينية/السياسية بديلا، وهذا ما جعل هذه الدول تغرق في ظلام المصير المجهول.
وعلى ضوء ذلك، فإن ما تبقى للمثقف من دور هو تجارته القديمة التي طالما اشتغل بها، وهي إثارة الوعي العام بقضايا الإنسان الأزلية، بغض النظر عن موقفه السياسي الذي هو في نهاية المطاف خاضع لمدى تقديره للواقع، ولمدى رؤيته في الحفاظ على المكتسب الوجودي أو خسارته.
فالواقع السياسي العربي الذي نراه اليوم بأم أعيننا، هو أن البديل أسوأ، وأن القادم تحدٍ وجودي صعب، وليس حلما ورديا كما كانت تعتقد الجماهير الثائرة، فالشريحة الشبابية التي قامت فعليا بالثورات قد اختفت، وورث السياسي/الديني الثورة، وهنا يبقى المثقف موجودا خلال ما يتركه لمجتمعه من إرث فكري وإبداعي، ولنا في قراءة المواقف السياسية للمثقف الأوروبي مثالا جيدا، فاختلافات المواقف السياسية بين "جان بول سارتر" و"ألبير كامو" قد ذهبت، وبقي منهما أهم ما كانا يفكران به، وهو الإنسان!.