يروي (أفوقاي الموريسكي) أو أحمد الحجري، بحسب اسمه العربي، ما حصل له في إحدى أهم محطات هروبه من إسبانيا المسيحية إلى المغرب المسلم، وهو ما حدث له في بلدة (البريجة) التي كان يحتلها الإسبان في البرّ الإفريقي، والتي وصل إليها أفوقاي ورفيق له في هيئة مسيحيَّين عاديَين قادمَين على سفينة برتغالية من البرّ الأوروبي. كان هدف أفوقاي ورفيقه هو الوصول إلى بلاد المسلمين والتخلص من الاضطهاد المسيحي الذي كان طاغيا في الأندلس إلى الأبد. كاد أمر المسافرَين يكتشف عندما تنبه بعض سكان البريجة لتسللهما بعد الغروب خارج سور المدينة، فانطلقت الأبواق في أثرهما، وهنا استعملا حيلة بارعة وهي أن يتظاهر رفيق أفوقاي بالصرع بعد أن يجرح جوف فمه بآلة حادّة فينبعث الدم خارجا من الفم أثناء تخبّطه واضطرابه على الأرض. أثناء ذلك عدا أفوقاي نحو الجمع القادم من البلدة، وأخبرهم بأنه افتقد صاحبه قبيل إغلاق بوابات البلدة وخرج في إثره ولكنه وجده في حال غريبة تضطره إلى حمله والعودة به، ولكن صعب عليه هذا بسبب اضطراب صاحبه ومقاومته لذلك، فركضوا معه -رغم شكوكهم- نحو صاحبه فلما وجدوه ملقياً على الأرض يختلط التراب بدمائه وهو في ذلك يحشرج ويتخبط، ظنوا أنه موشك على الموت، فهبّ بعضهم إلى القسّيس يحضره ليستغفر له ذنوبه ويطهره قبل ذهابه إلى آخرته. فلما دنا القسيس اقترب منه أفوقاي قائلا "أظنّ الرجل مصابا بالصرع فاقرأ عليه بعض ما لديك من الكتاب المقدّس تخرج به الشياطين التي صرعته"! عند ذلك شرع القسيس في القراءة ورأى الجميع بركة قراءته بزوال الشيطان عن المصروع وبُرْئه من حينها. فحملوه بينهم إلى البلدة يمرّضونه، فأشغل الناس ما رأوه من بركة القسيس والكتاب المقدس عن ريبتهم الأولى بالإسبانيّين اللذين تسلّلا خارج البلدة دون خشية من أسر المسلمين لهما.

ربما تكشف هذه القصة عن أحد أنماط التفكير الديني الذي لا ينفك يحمله كثير من الناس. وهو نمط مرتبط بالتحيزات المسبقة المتمكنة عقديا عندما تخلق نوعاً من الجاهزية لتصديق الشيء أو تكذيبه دون حاجة للتحقق. فحامل هذا النمط ليس بحاجة إلى تمرير الأمر أو معالجته منطقيا، بل ينتقل أَثَر مشاهدته أو سماعه مباشرة إلى مشاعره المتحيزة، فيتضخم به فرحه الأسبق بما لديه، وهو في حاجته إلى فرح كهذا ينفر من كل رؤية تشكيكية تحاول النيل منه وإفقاده إياه.

رغم أن هذا نمط لا يتماشى في المجمل مع الرؤية القرآنية إلا أن المسلمين أيضا لم يسلموا من تفشيه بينهم، بل لعلهم باتوا هم المتصدّرون في ذلك الآن. لا يمكن في الحقيقة فصل شيوع هذا النمط بين المسلمين عما يمرون به من مآسٍ في بلدانهم، ودور ذلك في خلق حاجتهم الملحّة إلى فرح يطبّبون به هويّتهم المكلومة. للأسف هذا ما لعب عليه مسوقو الخرافة تحت عناوين كثيرة.

ولكن رغم علاقة الفرح بهذه المشاهدات بالتحيزات المحمولة مسبقا إلا أن من المهم عدم تجاهل القلق المستتر في هذا السلوك، ولعله في كثير من الأحيان قلق أقرب إلى الهشاشة الإيمانية منه إلى رسوخ الوجدان، وهو من هذه الزاوية ويا للمفارقة، أظهر في الشيخ منه في المريد وفي مسوق الخرافة منه في متلقيها! وإلا فما الداعي الذي يجعل متديّناً يشعر بحاجة الدين الصادق إلى ترويجه والدعوة إليه بالأكاذيب. وبما أن الحديث هنا له علاقة بنكبة المسلمين في الأندلس فربما من المجدي الإشارة إلى ظاهرة تكشفها كتب التاريخ قد رافقت محاكم التفتيش في ذلك البلد، وهو كثرة اعتناق المشايخ والفقهاء المسيحية، ودعوة الناس إلى الردّة مع ممانعة العامة لهذا الأمر، مما قد يكشف أن الرسوخ الوجداني منفصل بشكل كبير عن الحمولات العقلية النظرية مهما تعززت بالسلوك الظاهري لدى المرء.

أخيراً، فإن الكتاب الذي استللت منه القصة أعلاه وهو كتاب (رحلة أفوقاي الأندلسي) الذي حققه الدكتور محمد رزوق، من أهم الكتب التي وثقت بعض ما تعرض له بقايا المسلمين في بلاد الإسبان من جوائح، كما يحمل كثيرا من الإشارات المعبرة عن احتكاك الثقافات في ظروف سلبية. كتلك التي عاصرها كاتب الكتاب الذي جال بعد فراره من الأندلس في بقاع شتى من أوروبا وشمال إفريقيا.