أكتب هذا الأسبوع من لندن، حيث وافق البرلمان على الميزانية التقشفية الجديدة التي أعدتها الحكومة البريطانية، وهي أول ميزانية تقدمها حكومة الائتلاف بين حزبين، أي ا لمحافظين وحزب الديموقراطيين الأحرار، وتهدف إلى تقليل عجز الميزانية والدين الحكومي. ومن ضمن ما اشتملت عليه هذه الميزانية رفع سن التقاعد من (65) إلى (66) سنة، لتخفيف الأعباء على الحكومة وعلى برنامج التقاعد الذي يواجه خطر العجز عن أداء مهامه، وهناك حديث عن رفع سن التقاعد مستقبلاً إلى (68) عاماً، إذا ما استمرت الأزمة في برامج التقاعد البريطانية.
ومع أن هذا القرار يمس شرائح كبيرة من المواطنين في بريطانيا، كانت ردود الفعل معتدلة نسبيا. خلافاً لما حدث في فرنسا خلال شهر أكتوبر، حين أقر مجلس الشيوخ الفرنسي مقترح الرئيس ساركوزي برفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاماً، مع تخفيض المنافع للمتقاعدين في تلك السن، أما لمن يرغب في التقاعد بمنافع كاملة فيتعين عليه الانتظار إلى سن 66. وواجه الفرنسيون هذا القرار بالاحتجاج والشجب اللذين وجدا طريقهما إلى الشارع، حيث عمت المظاهرات والإضرابات وأعمال الشغب أنحاء فرنسا لأكثر من عشرة أيام متوالية، وكان العنف وسيلة التعببر المفضلة لدى الكثيرين منهم. وكان لافتاً للنظر الأعداد الضخمة للمحتجين الذين قُدرت أعدادهم بالمليون متظاهر أو يزيد، وكون الاحتجاج شمل مدناً لم تكن ميدان شغب في الماضي مثل مدينة ليون في وسط فرنسا. وربما كان الاحتجاج الشعبي في فرنسا تعبيراً عن ضعف الثقة في الحكومة بشكل عام، أكثر منه احتجاجاً على رفع سن التقاعد. ثم إن المظاهرات في فرنسا، وقد تصحبها أعمال عنف أحياناً، أصبحت عادة وتقليداً، مثلها كمثل الإضرابات، ولكن امتدادها إلى مناطق كانت الحكومة تظنها آمنة لا شك أثار القلق في باريس.
ولكن ما يلفت النظر حقاً في الاحتجاجات الفرنسية العنيفة أن رفع سن التقاعد قد أصبح أمراً مألوفاً في القارة الأوروبية، منذ فترة، وأن سن التقاعد الفرنسي المنخفضة نسبياً لدى (60) عاماً هو الاستثناء لا القاعدة في أوروبا، ولذلك فإنها كانت مسألة وقت فقط إلى أن قررت الحكومة الفرنسية رفع سن التقاعد، ولكن ذلك لم يكف لإقناع المواطنين بقبول خطة الحكومة. وقد سبقتها بريطانيا التي رفعت سن التقاعد إلى 65 عاماً منذ سنوات، ثم قررت رفعها مرة أخرى الأسبوع الماضي إلى 66 عاماً، وتفكر في رفعها مرة أخرى إلى 68 عاماً، ومثلها هولندا التي رفعت سن التقاعد منذ فترة إلى 65 عاماً، وتعمل حالياً على رفعها إلى 66 عاماً، مثل بريطانيا. وتحدد النمسا سن التقاعد للرجال بـ (65)، وللنساء 62 عاماً.
وبالمقارنة تبلغ سن التقاعد في المملكة (60) عاماً هجرياً، أي ما يعادل نحو (58) عاماً ميلادياً، وهي منخفضة بالمعايير الدولية، ولا عجب لأنها قد حُددت منذ أكثر من 50 عاماً، عندما كان العمر المتوقع للمواطن نحو 60 عاماً، وكان عدد المتقاعدين محدوداً مقارنة بالموظفين الذين يدفعون حصتهم في النظام، ولذلك فقد كان من الممكن تصميم برنامج يعطي الموظف تقاعداً مبكراً. أما بعد أن تحسن ظروف العناية الصحية والتقدم الطبي اللذين ساعدا على إبقاء الموظفين منتجين إلى سنوات متقدمة، وتفادي كثير من أسباب العجز عن العمل، وكذلك زيادة نسبة المتقاعدين أصحاب المعاشات إلى العاملين ، فإن النظام – مثله مثل بقية الأنظمة في العالم – سيواجه صعوبة في المستقبل في دفع مستحقات المتقاعدين، ما لم يتم اتخاذ إجراءات ملائمة لتفادي ذلك قبل وقوعه.
فلماذا أصبحت تلك البرامج عاجزة عن القيام بواجباتها؟
السبب الرئيسي، هو أن نسبة عدد العاملين الذين يساهمون في برامج التقاعد قد انخفضت مقارنة بأصحاب المعاشات. ففي الوقت الحاضر (في دول مجلس التعاون على سبيل المثال) هناك نحو خمسة موظفين على رأس العمل مقابل كل صاحب معاش، ولكن هذه النسبة ستنخفض خلال العقدين القادمين إلى نحو ثلاثة موظفين لكل صاحب معاش. والفرق الكبير بينهما يعني عبئاً مضاعفاً على برامج التقاعد. أما في الدول الغربية، التي بدأت برامجها التقاعدية منذ فترة فإن وضعها أكثر سوءاً، إذ وصلت النسبة بين المتقاعدين والعاملين إلى معدلات خطرة تهدد السلامة المالية لبرامج التقاعد.
وهناك عامل آخر، مرتبط بذلك، وهو أن نسبة كبار السن في أي مجتمع في العالم قد ارتفعت، مما يعني زيادة العمر المتوقع لأصحاب المعاشات، نتيجة تحسّن الظروف الصحية والطبية، مما يعني أنهم يستمرون في تقاضي معاشات تقاعد لفترات أطول مما كان متوقعاً.
والحلول الممكنة تتمحور حول تخفيض المزايا التي تقدم للمتقاعدين، أو رفع نسبة مساهمة الموظفين في برامج التقاعد، ورفع سن التقاعد طريقة غير مباشرة لتحقيق ذلك، ومع أنه ليس أمراً شعبياً – كما رأينا في اضطرابات فرنسا – لكنه ربما كان أخف الأضرار، إذا كنا نأمل في الحفاظ على ملاءة برامج التقاعد وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها نحو المتقاعدين.
أما احتجاجات الفرنسيين على رفع سن التقاعد فهي تعبير عن رومانسية غير واقعية، تعبر عن الرغبة الدفينة في العودة إلى العصور الذهبية حين كانت الحكومات قادرة على دعم برامج الرفاه الاجتماعي دون حساب.