هل تذكرون هذا العنوان؟ ألا تتذكرون صوت الناي؟ ومن بعده صوتاً رخيماً مع طلة مستكينة ذابلة من رجل غاص غوصاً في بحور العلم والفلسفة وهو يقول: "أهلا بيكو"، نعم إنه الطبيب العالم الفيلسوف الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله تعالى. ما أعادني إلى تلك الأوقات الجميلة هو كتاب عن مذكراته وحياته الشخصية من تأليف السيد الحراني. جاء في مقدمته: كلماته (يقصد الدكتور مصطفى كمال محمود حسين آل حافظ الذي ينتهي نسبه إلى علي زين العابدين، إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين) غاية في العذوبة... سهلة إلى أبعد حدود السهولة.. بسيطة إلى أعمق مدى، تصل إلى العامة ومحدود الثقافة بسرعة خارقة... أفكاره في متناول الجميع، ليس فيها تعقيد ولا لبس، بل هي بسيطة للغاية.

والحق- والكلام لي الآن- أني ما عرفت الدكتور مصطفى محمود ككاتب وروائي وفيلسوف بقدر معرفتي به ومعرفة كثيرين غيري به كعالم متحدث يأخذك في سياحة إيمانية علمية في برنامجه فلا تعود إلا وأنت مطمئن النفس من عظمة الله جل جلاله، يلهج قلبك قبل لسانك بتمجيد الله وذكره: فهو سبحانه فالق الحب والنوى ومكور السماوات على الأرض، يأتيك الدكتور مصطفى بحلقة عن البحار والمحيطات وأخرى عن الأفلاك والأجرام السماوية وثالثة عن النمل أو النحل ورابعة عن جليل وبديع خلق الإنسان! فلا عجب إذاً أن تلتف حوله العائلة كل العائلة متابعة برنامجه بشغف وهدوء، وما إن تنتهي الحلقة إلا ويبدأ شوقنا لحلقة جديدة.

إن مثل هذا الخطاب العلمي الإيماني يعد وسيلة فعالة لنشر ثقافة العلم وحبه والشغف به في مجتمعاتنا، إن العلم والإيمان صنوان في بنائنا الفكري الحضاري: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، بل إن المسلم الحق لا يليق به إلا أن يكون صاحب علم متقدم متطور في فنون الحياة، ألم يقل الله سبحانه على لسان سليمان حين اختلط الأمر على ملكة سبأ في أمر عرشها الذي قالت: "كأنه هو"، ثم لما غفلت عن صرح ممرد من الزجاج وحسبت أنها ستغوص في لجة من الماء فكشفت عن ساقيها: "وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين"، كفانا إذاً خرافات وأساطير وأوهاما تحكم العقلية الجمعية لمجتمعاتنا العربية، نريد عقلية تقوم على البحث والاستكشاف "قل سيروا في الأرض"، وتقوم على الدليل والبرهان لا الحدس والظنون "قل هاتوا برهانكم".

مذكرات الدكتور مصطفى محمود ككلماته سهلة عذبة، فيها حديث عن طفولته ومرضه الذي لازمه طوال حياته، وعشقه للتفكير وثقافة المساءلة أو كما يقول هو عن نفسه: أنا مفكر من وأنا في بطن أمي، وولعه بالخيال والأرواح وحقيقة الموت، هذا الاهتمام الذي استمر معه حتى كبر، وحبه بل عشقه للموسيقى، ودراسته للطب، وشرائه لجثة وضعها تحت سريره في غرفة نومه من شدة ولعه بمادة التشريح، واشتغاله بالعمل الصحفي منذ نعومة أظفاره، وقصة كتابه الأول الذي ضمنه بعضا من الأفكار المادية التي تخلى عنها لاحقا، وعن سوء علاقته بعبدالناصر، ومن بعد ذلك عن حسن وحميمية صلته بالسادات، وعن علاقاته بكثير من رجال العلم والأدب والفن، والغريب الممتع في المذكرات هو حديثه عن رحلاته الغريبة العجيبة: ذهب مرة في رحلة عمل صحفية لتغطية مؤتمر عام 1962 في إحدى الدول الإفريقية، عاد بعدها في رحلة استمرت شهورا مشيا على الأقدام إلى مصر قاطعا الصحراء الكبرى! كتب بالتفصيل عن قبيلتي الشلك والدينكا بجنوب السودان، رحل إلى الهند، وزار عدة دول أوروبية ويروي العديد العديد من مشاهداته وملاحظاته عن عادات وتقاليد تلك الشعوب.

من طريف ما كتب أنه أسس جمعية للكفار، نعم للكفار، وهو ابن 12 سنة كردة فعل لوعظ شيخ الجامع الذي نصح الناس بطريقة يقضون بها على الصراصير والحشرات الضارة في المنزل، وهي عبارة كما يصف الدكتور مصطفى عن مزيج من الآيات والطلاسم أملاها الشيخ وأمر الأولاد بأن يلصقوا هذه الورقة على الحائط، طبعا لم تمت الصراصير بل زادت، فبدأ الدكتور مصطفى وهو طفل يشك في كل شيء كردة فعل، زادت معها قراءاته واطلاعاته التي كانت بالساعات وفي كتب فاقت عمره بكثير، طبعا صاحب ذلك - كما يذكر بكل ظرف- مجادلات وخناقات كثيرا ما تنتهي بالضرب والجري كما ضمت المذكرات بكثير من الإكبار نص فتوى ورأي علماء الأزهر في أول كتب الدكتور مصطفى، كتبها الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر ورئيس دار الإفتاء من 1955 إلى 1964 وهي كما علق الدكتور مصطفى محمود: (أن المفتي ذكر ما يتفق فيه معي قبل ذكر الاختلافات.. إضافة إلى أن الفتوى لم تذكر أية اتهامات بالتكفير أو التفسيق أو التبديع أو عنف لفظي ضدي... لم تنشر الفتوى وقتها أبدا لعدم التشهير، حتى إنهم ذكروا اسمي بالدكتور "م.م"، ولم تذكر الفتوى أية دعوة بمصادرة الكتاب، ولم تطلب ذلك، بل اكتفت بمناقشتي وأفكاري.. ويتساءل الدكتور مصطفى: (إذا كان موقف الأزهر ودار الإفتاء يظهر واضحا من خلال هذه الوثيقة.. فمن وراء كل دعاوى التكفير ودعاوى الزندقة التي هاجمتني طوال عقد من الزمان؟).

إلا أن أروع ما سيقف الواحد منا أمامه وهو يطالع هذه المذكرات فهو حكاية الدكتور مصطفى محمود مع الأعمال الخيرية، لاحظوا أنه ليس من أصحاب الأموال ولا الثروات ولا الملايين، وإنما هو إنسان له روح مرهفة حساسة ذابت في أنوار الحب الإلهي، أسس جمعية محمود الخيرية الشهيرة بالمهندسين، وذلك بعد أن بنى مسجده المعروف إلى الآن في القاهرة، وبارك الله في جهوده فأنشأ مستشفى (للغلابة) قيمة الكشفية جنيه واحد ثم بعدما زادت التكاليف أصبحت 5 جنيهات، ليكبر عدد مراجعي المجمع الطبي إلى 4500 مريض يوميا، وليس هذا فحسب، بل تجاوز النشاط الخيري ليشمل توفير الملابس لعشرات الآلاف من الأسر المصرية إلى توفير مصدر رزق ثابت ودائم لمعدومي الدخل، بل وتوفير الطعام للمنكوبين.. هذا بالإضافة إلى الرحلات العلاجية التي كان يقوم بها في أنحاء مصر وهي كما أسماها رحلتا الشتاء والصيف... وليس هذا كل شيء قام به الرجل، ولكنه نقل يسير عن إنجازاته وكيف أنه عالم لا يكتفي بالكلام والفلسفة والتأليف، بل يبادر إلى أرض الواقع محولا أفكاره وقناعاته إلى أثر ملموس يبقى له بعد وفاته.

 رحمة الله هذا العالم المفكر الفيلسوف الذي وضع مدرسة في العلم والفكر والإيمان والدعوة والعمل قل تلاميذها في هذا الزمان.