خالد بشار حلبي، شاب سوري اضطر إلى ترك بلاده، ولجأ إلى لبنان، حاملا إرثا فنيا ورثه عن أبيه وجده، وهو صناعة العود والبزق، بطريقة فنية يدوية تراثية. أزمة بلاده لم تمنع الشاب الدمشقي ابن الثلاثين ربيعا من الإصرار على المحافظة على هذه المهنة الفنية التي تصارع هجمة الآلات الموسيقية الإلكترونية، ومن التشبث بهذا التراث الذي ما زال يجد من يقدره ويعرف قيمته التاريخية والتراثية.
المحافظة على الموهبة والمهنة
يجلس حلبي في ورشته الصغيرة، ومن حوله معدات النجارة ومختلف أنواع الأخشاب، وما أنجزه من آلات موسيقية "عود وبزق"، يبدأ بتقطيع الألواح الخشبية ومن ثم طيّها باستخدام الماء والحرارة المرتفعة، ليقوم بجمعها في النهاية بشكل العود، مستخدما مادة لاصقة ومسامير صغيرة ومطرقة خاصة. 10 أيام من العمل يقضيها حلبي لاجتياز 72 مرحلة، تنتهي بصناعة عود، فيما قد تمتد الفترة إلى شهرين في حال كان العود من النوع المزخرف.
ورشة حلبي في منطقة سليم سلام في العاصمة اللبنانية بيروت، يفوح منها عبق التاريخ الجميل، فالأعواد القديمة معلقة على أحد الجدران، وآلات التصنيع اليدوية تزين زاوية هنا وأخرى هناك، إلى جانب رائحة الأخشاب البلدية، وألوانها المشكلة التي تسر الناظرين.
وسط هذه المعدات والأعواد والأخشاب، تحدث حلبي لـ"الأناضول" والأمل يعتريه بأن تبقى هذه المهنة التراثية صامدة بوجه الهجمة الإلكترونية التي في كثير من الأحيان تفقد الآلات الموسيقية روحها وحنانها وأنغامها الطبيعية.
ولفت حلبي إلى أنه ومنذ اليوم الأول الذي أتى فيه إلى لبنان، قبل حوالى العام ونصف العام، عمل على فتح ورشته الصغيرة للمحافظة على "هذه الموهبة والمهنة الموروثة"، مشيرا إلى أن العمل الأساسي لأسرته في سورية هو صناعة العود والبزق.
"عادة ما يتم توريث مثل هذه المصالح والأعمال في سورية بشكل تلقائي، من الجد للابن ومن ثم للحفيد، وأنا اكتسبت هذه المهنة من أبي"، مشيرا إلى أنه لحبه وعشقه لها عمل على تطوير مهاراته بدراسة النجارة أكاديميا في أحد المعاهد، ومن ثم دراسة الفنون التشكيلية.
وأعرب حلبي عن حبه للعمل مع الأخشاب، قائلا "أنا أحب هذه المهنة وأحب العمل مع الأخشاب بكل أنواعها، من خشب الأرز والصنوبر والجوز إلى خشب الورد والمشمش وغيرها".
وتحدث عن جده وعمله في مجال تصنيع العود الخشبي، مشيرا إلى أنه "صنع عودا خاصا وأهداه للفنانة المصرية الراحلة أم كلثوم، وهو موجود حتى يومنا هذا في متحف أم كلثوم في القاهرة".
أفضل أنواع العود في العالم
حول مراحل تصنيع العود، قال حلبي "العملية تتألف من 72 مرحلة أساسية، تبدأ من تقطيع الأخشاب وفق مقاسات وسماكات محددة، وطيّها باستخدام الماء والحرارة المرتفعة، ومن ثم تركيبها"، موضحا أن "واجهة العود تحتاج أيضا إلى كثير من مراحل العمل، لنختتم عملية التصنيع بالزخرفة حسب التصاميم التي نرسمها". وتابع قائلا "تصنيع العود العادي الواحد يحتاج إلى حوالى 10 أيام كحد أدنى، أما العود الذي يتضمن زخارف ومواصفات إضافية فقد تصل مدة تصنيعه إلى نحو شهرين".
في السياق نفسه، أبدى حلبي "تخوفا من اندثار هذه المهنة التراثية، نتيجة ظهور الآلات الموسيقية الإلكترونية"، إلا أنه أوضح في الوقت نفسه أن "وجود من يحب العود الخشبي ويهتم به، يبدد مخاوفنا ويزيدنا إصرارا على متابعة العمل والمحافظة عليه".
وشدد على أنه "مهما ظهرت آلات موسيقية إلكترونية، إلا أنها لن تتمكن من أخذ مكان ومكانة العود الخشبي الذي يتميز بصوت وروح لا يمكن أن نجدهما في نظيره الإلكتروني". وبيّن حلبي أن "لكل عود خشبي صوتا مميزا، فالأعواد السورية والعراقية والمصرية والتركية، تعتبر من أفضل الأنواع في العالم، ولكل منها نكهة خاصة لا يمكن لواحد منها أن يحل مكان الآخر". وختم بالتأكيد على الاستمرار في هذه المهنة التراثية والمحافظة عليها "حتى آخر نفس"، مضيفا "سأعمل على توريثها لأبنائي بصورة صحيحة ومتقنة كما ورثتها عن أبي وجدي".