يصادف مطلع هذا الشهر من كل عام احتفال الفلسطينيين بانطلاق مقاومتهم ضد الاحتلال الصهيوني. ففي الأول من يناير عام 1965، دشنت (فتح) انطلاقتها بأول عملية عسكرية داخل "إسرائيل" عبر الحدود الأردنية.

ويجدر عن هذا المنعطف التمييز بين منظمة التحرير كنتاج لمؤتمر القمة العربية التي عقدت بالقاهرة للرد على مخططات الحكومة الإسرائيلية، بتحويل مياه اليرموك لصحراء النقب. وكان من نتائج ذلك المؤتمر إضافة إلى قرارات أخرى، تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية.

أما حركة فتح، فهي حركة ذاتية في الأصل، عارضت معظم الحكومات العربية انطلاقتها، وشككت في أهدافها، باعتقاد أن عملياتها ضد إسرائيل ستجر إلى ردود أفعال عسكرية قوية لم تكن الأمة العربية مستعدة لها.

لكن التطورات التي أعقبت نكسة الخامس من يونيو 1967، ألجأت بعض دول المواجهة للقبول بوجود قواعد عسكرية لمنظمات المقاومة على أرضها. فقد تسببت النكسة في تدمير كامل لجيوش مصر والأردن وسورية، ولم يبق من بقعة ضوء، في المواجهة سوى عمليات المقاومة.

لماذا تحددت أهداف المقاومة بالتحرير الكامل لفلسطين، واعتماد الكفاح المسلح سبيلا لاستعادة الأرض المغتصبة؟ وإلى أي جهة تنتمي القواعد الاجتماعية، التي هي أداة وهدف التحرير؟

الإجابة على هذه الأسئلة، لن تكون دقيقة، إلا حين توضع ظروف انطلاق المقاومة في سياق المزاج العربي الرسمي في حينه. وأول ما يستحق النظر له، أن المناخ العام لأبناء الأمة شعوبا وقيادات بعد نكبة فلسطين، 1948، مناخ رافض للتنازل عن فلسطين، والقبول بوجود "إسرائيل".

صحيح أن العرب، لم يبادروا بالحرب مطلقا على الكيان الصهيوني منذ النكبة حتى معركة العبور 1973، وأنهم كانوا دائما يتلقون الضربات، وتكون ردود أفعالهم عليها أقل مما ينبغي، بسبب الخلل الفاضح في توازن القوة، لكنه بات في الضمير والعقل العربيين عدم مشروعية وجود الكيان الغاصب، وأن العرب سوف يتصدون لهذا الكيان في يوم ما، ويقتلعون جذوره، وتعود فلسطين حرة عربية.

يضاف إلى ذلك، أنه لم يكن من معنى في حينه، لقيام دولة فلسطينية مستقلة بالضفة الغربية وقطاع غزة. فالأولى ضمت للأردن وغدت جزءا منه، والثانية ظلت تحت الإدارة المصرية. معنى ذلك أن طرح قيام دولة فلسطينية مستقلة في حينه لن يكون صداما مع العدو الصهيوني، بل سيكون مواجهة مع دول عربية شقيقة. وذلك سيؤثر عكسيا على القضية الفلسطينية، التي ترى في مصر والأردن وسورية طلائع في المواجهة مع المشروع "الإسرائيلي".

وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن المقاومة الفلسطينية لم تنطلق من أراضي 1948، وإنما من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وسورية ولبنان، وطلب هؤلاء اللاجئين العودة إلى ديارهم في حيفا ويافا والناصرة... أمكننا فهم دوافع المقاومة في تحديد هدفها بتحرير كامل التراب الفلسطيني، واعتماد الكفاح المسلح وسيلة وحيدة لتحقيق هذا الهدف المشروع.

لم يكن منطقيا في حينه، الحديث عن أية خيارات بديلة، إذ ليس بالإمكان تصور قبول الصهاينة بالتنازل عن طريق المفاوضات السياسية عن شبر واحد من الأراضي التي احتلت عام 1948. بالتأكيد لم يتوقع الفلسطينيون أن تؤدي تلك العمليات إلى هزيمة "إسرائيل"، بل كان الهدف منها إبقاء القضية الفلسطينية حية، واستمرار شعلة الكفاح من أجل تحريرها.

الواقع هذا تغير بشكل دراماتيكي بعد حرب يونيو 1967. فهناك حقيقتان مرتان دخلتا على الخط. أولاهما أن المهمة الرئيسية لمصر والأردن وسورية باتت العمل فورا وبجدية، وبكل ما أوتيت هذه الحكومات من قوة لإزالة آثار العدوان. وما دامت إزالة آثار العدوان بعد النكسة مباشرة غير ممكنة بالقوة العسكرية بسبب انهيار جيوش تلك الدول، فلن يكون ذلك ممكنا في حينه إلا من خلال الحلول السياسية، خاصة أن الشرعية الدولية في قراراتها أقرت بحق الدول العربية، ومن خلال قرار مجلس الأمن رقم 242 باستعادة أراضيها التي احتلت في نكسة يونيو.

العامل الآخر للانتقال في الأهداف والاستراتيجيات عامل فلسطيني ذاتي. فالفلسطينيون بالأراضي التي احتلت حديثا بفعل النكسة، وجدوا أنفسهم وجها لوجه تحت سيطرة الاحتلال. ولم يعودوا في تلك اللحظات الحالكة، في وارد التفكير في مشروع تحرير لكامل فلسطين، لا تشير كل المعطيات المحلية والدولية، بوجود أفق له. ولذلك تركز هدفهم على تحريرهم من نير الاحتلال، ولم يعد تحرير كامل فلسطين ضمن أجندتهم.

المقاومة التي انطلقت من بلدان دول المواجهة، وجدت نفسها محاصرة في هذه البلدان التي تتطلع إلى استرجاع أراضيها. وبات عمودها الفقري في المخيمات عاجزا عن تحقيق هدفها الرئيس، بعد أن طردت من الأردن عام 1970، ومن لبنان عام 1982، ولم يكن السوريون منذ مطالع السبعينات من القرن المنصرم، يتيحون للمقاومة الانطلاق من أراضيهم نحو الأراضي المحتلة.

في حينه حدث نهوض بالضفة الغربية، وقطاع غزة، منذ منتصف السبعينات، ولكن في سياق تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، وليس تحرير كامل التراب الفلسطيني. وعلى أثره تحولت تلك الأراضي إلى مناطق جاذبة في الكفاح الفلسطيني. فكان من نتائجه، أن غيرت حركة المقاومة أهدافها واستراتيجياتها، وحتى عمودها الفقري الاجتماعي، بما ينسجم من التغيرات الجوهرية، التي حدثت في المزاجين العربي الرسمي، والفلسطيني في الأراضي المحتلة حديث.