لا شك أننا سكان الشرق الأوسط نمر بأوقات عصيبة هذه السنوات. من يعيش في العراق وسورية واليمن وليبيا يعلم ذلك بالتأكيد أكثر مني. ولكن حتى من يعيش في السعودية وباقي دول الخليج أو تركيا أو مصر أو حتى أوروبا يحس بالخطر والقلق مما تمر به المنطقة هذه الأيام. الأزمة الحالية ليست أزمة طبيعية بمعنى الكوارث من زلازل وبراكين ومجاعات والتي رغم ألمها عادة ما تجمع الناس وتحيي في قلوبهم مشاعر الرحمة. ما يجري حاليا هو فشل للبشر في إدارة شؤون خلافاتهم. بمعنى أن مؤسساتهم وثقافاتهم العامة تعاني مرضا عضالا أدى بهم إلى الاحتراب وقتل بعضهم البعض بدلا من التعاون والعيش المشترك.
الأمراض من هذا النوع معقدة بطبيعتها وعلاجاتها كذلك، لكنها ليست جديدة في التاريخ البشري. الحروب الطائفية والعرقية مثل الأمراض الجسدية رافقت البشرية منذ بداياتها الأولى. بما أن هذه الأمراض قديمة قدم الإنسان فإن محاولات العلاج لا بد أن تكون قديمة قدم الإنسان كذلك. البشر الذين يعرفون الطائفية والعنصرية والانتقام والحقد والعداوة والطمع يعرفون كذلك التسامح والعدالة والعفو والرحمة والتعاون. المجموعة الأخيرة هي المستشفى الذي طال ما لجأ إليه الناس للتعافي من أمراضهم. اليوم أريد الحديث عن واحدة من الأدوية التي طالما استعملها البشر للانتصار على أمراضهم البشرية وأمراضهم الطبيعية. هذا الدواء الموصوف قديما وحديثا هو دواء الضيافة.
الضيافة بطبيعتها تنتمي لجماعة الأدوية لأنها تمتلك الفارق الجوهري في العلاقة مع الآخر. لو تأملنا مجموعة الأمراض لوجدناها جميعا تشترك في هذا المنطق، منطق "أولوية الذات" أو "الانغلاق على الذات" أو ما نسميه عادة بالأنانية. الأنانية هنا فردية وجماعية في ذات الوقت تشمل الفرد الأناني والجماعة، الطائفة، التي يعرّف نفسه بها ويربط وجوده بوجودها. في المقابل فإن مجموعة الأدوية تشترك جميعا في هذا المنطق "أولوية الآخر" أو "الانفتاح على الآخر" أو ما نسميه عادة بالتعاون والمساعدة.
الضيافة بطبيعتها انشغال واهتمام بالآخر، لكنها في ذات الوقت تقدم لنا اهتماما من نوع خاص وانفتاحا على الآخرية من نوع خاص كذلك. نلاحظ هنا أنني لا أتحدث عن الضيافة في الأطروحات الفلسفية أو في المدن الفاضلة، ولكنني أتحدث عنها كما مارسها أهل الضيافة في العالم كله طوال التاريخ البشري. الضيافة بهذا المعنى ممارسة اجتماعية واقعية أحاول هنا مجرد وصفها أو الاقتراب من معانيها لا أكثر.
الضيافة اهتمام بالآخر باعتبارها علاقة يؤسسها الآخر. بمعنى أن هوية المضيف ليست هوية ذاتية، بل هوية آخرية يؤسسها الضيف. لا مضيف بلا ضيف. المضيف الحقيقي يعلم أن الفضل للضيف عليه. بمعنى أن الضيافة في عين المضيف قد بدأت من الضيف لا من المضيف. ولكن الباب المفتوح في عرفنا هو الإشارة الأولى، هو الإعلان الكبير وهو الترحيبة الصادقة. هذا في عرف المراقب أو العين الثالثة، لكن في عين المضياف الكريم فإن الضيافة بدأت من إقبال الضيف على بيته، من ثقته في هذا البيت لكي يكون وجهته بحثا عن علاج الوحدة والعزلة والخوف والجوع. الاهتمام بالآخر هنا في الضيافة متجاوز للمساعدة عابرة السبيل إلى تأسيس لكيان المضيف وقيمته الاجتماعية. يتفاخر المضيف الكريم هنا بثقة الآخرين به. ثقتهم بأن ضيافته غير مشروطة وغير خاضعة لحساباته الخاصة.
الضيافة غير المشروطة تحيلنا على امتياز الضيافة بقبول آخرية غير مشروطة. بمعنى أن المضيفة لا تحدد مسبقا هوية ضيفها. الضيف هو من يقبل دعوة الضيافة لا أكثر. الباب المفتوح هنا إعلان عن تخلي المضيف عن سلطة تقرير من يدخل ومن لا يدخل. الضيافة هنا استسلام وبراءة من السلطة. المضيفة كذلك ليست فقط معنية باستقبال الآخر كآخر، بل كذلك هي معنية بحماية هذه الغيرية وهذه الآخرية. مهمة الضيافة تتضمن منع توجيه هذا الطلب للضيف "كن مثلنا". المضيف لا يسأل عن اسم ضيفه ليس لأنه غير معني به أو مشغول بتفاصيله بل بالعكس. المضيف مشغول بكل تفاصيل ضيفه لدرجة الهوس، ولكنه يرفض طلب اسمه إعلانا للطهارة من أي ضيافة مشروطة تحددها هوية الضيف.
الضيافة هنا علاج لأمراض العنصرية والحروب الطائفية لأنها باختصار إعلان للانتماء للإنسان بغض النظر عن طائفته وعرقه. ما يعني المضيفة هو أن هناك "أحدا" بالباب. لا يهم كثيرا من هو ذلك الأحد. أكثر من ذلك أن الضيافة تحديدا موجهة للغريب وعابر السبيل والمحتاج. الضيافة بهذا هي احتفاء بالآخرية، لذا فهي مقاومة لأفكار المماثلة والمطابقة المؤسسة للعنف. نلاحظ أن الطائفي يقول: لا أريد أن يوجد معي إلا من يشبهني ومن يخالفني يجب أن يخضع لي أو يموت. الضيافة حماية في فضاءات التهديد وتعدد في سياقات الاصطفاف وعلاقة وسط دعايات القطيعة. التحدي الذي يواجهنا برأيي هو التفكير بمنطق أخلاق الضيافة خارج الحدود التي تعارفنا عليها على أنها حدود الضيافة. أحد أشكال هذا التحدي هو التفكير في الضيافة في المجال العام خارج ما تعارفنا عليه على أنه المكان والبيت الخاص.