منذ نشوء الإسلام، وخلال مسيرته التاريخية الطويلة يمكن القول بأنه لم تتم مساءلته برؤية موتورة، وإلصاق التُهم به كما جرى في هذا الوقت، باعتبار تصاعد الإرهاب المكتسح للقارات، والمتجاوز للدول، والعابر للجغرافيا.

الإرهاب الذي يتواصل، ويتفجر في أماكن مختلفة، وأزمان متفاوتة كان يرفع عقيرته بتبني الإسلام. كان يقدّم أعماله تحت أفكار يقول بأنها هي ذاتها أفكار الإسلام. الإرهابي حين يمارس القتل، والتفجير، والتكفير، وسفك الدماء فإنه يتذرع بأن فهمه للإسلام هو من يحضّه على هذه الممارسات. في مقابل ذلك ثمة الرؤية الموتورة تجاه الإسلام التي – وهنا المفارقة – تتفق مع الإرهابي، وتقول بأن الإرهاب ذاته ليس إلا تطبيقات التعاليم الإسلامية في صورتها الأصلية، والصحيحة، وأنه ناتج عن فهم صريح للإسلام في صورته الأنقى والأوضح!

إذن، ثمة اتفاق يُلقي بظلاله على أن الإسلام هو المصدر، وأنه النبع الأساس الذي أنتج الإرهاب، وصنعه. هذه الرؤية تصاغ – أو بالأحرى يُراد لها أن تُصاغ – في معزل كامل عن فهم السياق التاريخي، والاجتماعي، والاقتصادي، فضلا عن السياسي. وهي إذ تتبنى هذه الرؤية التي تطبع الإسلام بطابع جوهراني، فإنها تغفل أو ربما تتغافل عمدا عن بقاء الأقليات، والمكونات الدينية غير الإسلامية في المشرق العربي في القرون الماضية، ذلك أن هذه الأقليات والمكونات الدينية استظلت داخل الحضارة الإسلامية، واستطاعت التعايش بسلام مع المكونات الإسلامية الأخرى، بل كانت جزءا مهما في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وقدمت إسهامات وافرة في العديد من العلوم، والفنون، والصنائع.

وهكذا فإن النظر إلى الواقع التاريخي لمجتمعات المشرق العربي يمكن أن يُبدي على الفور تهافت القول بأن الإسلام هو علة الإرهاب، بل لا شك أن الإسلام وفق ذات النظرة يُثبت أنه كان حِرزا لبقاء تلك المكونات الاجتماعية المختلفة عنه، وأنه كان صمام أمان لبقائها، واستدامة وجودها تاريخيا. فإذا ما تم النظر إلى الواقع الراهن المتعلق بمجتمعات المشرق العربي فإنه يمكن القول بأن هذه المجتمعات تشبه المتحف – على حد وصف المفكر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري يرحمه الله – من حيث تعدد مكوناتها الدينية، الأمر الذي يؤشر على أن الإسلام كدين لم يكن عاملا طاردا لها، بل على العكس من ذلك كان ضمانة في حمايتها، والإبقاء عليها. وبصرف النظر عن هذا الواقع فإن العودة إلى بطون التواريخ ومظانها تعطي برهانا لا يقبل الشك في دعم هذا القول، فاليهود على سبيل المثال حين تمت مطاردتهم من قبل محاكم التفتيش الصليبية في الأندلس بعد سقوط إمارة غرناطة المسلمة عام 1492، لم يكن الملاذ المناسب لهم سوى المشرق العربي والإسلامي، علاوة على أن مصادر التاريخ الإسلامي طافحة بذكر الكثير من أبناء الديانتين اليهودية والنصرانية الذين تقلدوا الوظائف الكبرى في الدول المسلمة خلال القرون الإسلامية الوسيطة.

إن الإرهاب لا يمكن معالجته إلا بالنظر إلى السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها المجتمعات العربية، فهي الأساس التي تجعل من الإرهابي يستدعي قراءة متطرفة، ونصوصا من داخل التراث الإسلامي، لتبرير عدميته تجاه من حوله، وتنزيلها على واقعه المرير!

الإرهاب في النهاية ليس سوى تجل لحالة عدمية وقودها الاعتراض على الواقع بكافة مناحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. الإرهاب هو تعبير عنيف ومسلح عن حالة انسداد الأفق بالنسبة إلى الإنسان العربي، ونتيجة لنشر قراءة غير متسامحة للدين الإسلامي، ظلت هذه القراءة هي المحتكرة للإسلام على مدى العقود الفارطة، ولم تزل حتى اللحظة باقية!

من المهم جدا العمل بشكل مزدوج، أي العمل باتجاهات متعددة فكما أن معالجة مناحي هذا الواقع المرير يمكن أن تؤدي إلى نضوب الإرهاب، ينبغي أيضا كسر احتكار قراءة الإسلام والذي تمارسه بعض المدارس الفكرية السائدة، ويتعين أيضا عليها النظر في مصطلحاتها، ومفاهيمها تجاه الآخر المختلف، كما أنه من الضروري تكريس الإسلام الشعبي على حساب الإسلام الأيديولوجي، باعتبار أن الأول يهتم بالفرد من حيث تهذيبه وإصلاحه، في حين أن الثاني مولع بالمجال السياسي، ويحفلُ كثيرا بالتثريب على الآخر المختلف!