استنكر المجتمع السعودي بعض الممارسات والتصرفات الغريبة والشاذة عليه مثل غسل اليدين بدهن العود والعسل والسمن، وإقامة الولائم في صحون كبيرة يمتد طولها عشرات الأمتار، ونثر الهيل تحت أقدام الضيوف، باعتبار ذلك يدخل ضمن إطار الإسراف والتبذير والكفر بالنعم، وهذه التصرفات ليست من العادات والتقاليد في شيء.

حاول بعض المختصين في علم النفس والاجتماع تفسير تلك التصرفات ووصفها بأنها نتاج "صراعات لغرائز دفينة أو مقموعة من الأنا أو الشخصية"، وبعبارة أخرى هذه التصرفات عبارة عن وجود كبت طفولي ظهر لكسب الأنظار والشهرة والسمعة بين الناس.

ولا شك بأن العاملين الاجتماعي والنفسي لا ينفصلان في الواقع، إذ إن كل ظاهرة نفسية لها جانب اجتماعي، كما أن كل ظاهرة اجتماعية لها جانب نفسي، لذا فإن أسلوب التربية الاجتماعية والنفسية وتكوين الشخصية للفرد في البيت والمدرسة لها تأثير واضح في ظهور تلك التصرفات والتي استنكرها غالبية المجتمع، مع أنها في الحقيقة ثقافة اجتماعية!.

والثقافة الاجتماعية يمكن تعريفها بأنها "مجموعة التقاليد والقواعد والأفكار الموجودة في أية أمة من الأمم، وهي تشمل مختلف شؤون الحياة فيها، كالشؤون الدينية والأخلاقية والقانونية والفنية واللغوية وغيرها"، وبالتالي فإن شخصية الفرد تنشأ وتتبلور في إطار الثقافة الاجتماعية والبيئة التي يعيش فيها.

وأكاد أعتقد جازما بأن ما يسميه الناس بالـ(الهياط) ليس سوى مظهر رئيسي من مظاهر الكرم عند العرب، والمعروفين بهذه الخصلة كثيرا، فيتخذها الرجل العربي عادة وسجية ومبدأ يسير عليه ويوصي أبناءه بالتحلي به، ويتداول الناس في مجالسهم القصص والروايات والقصائد الشعرية عن رجال كرام أخذوا على عاتقهم الاقتداء بمن سبقوهم في إحياء عادة الكرم، وفي المدارس يتعلم التلاميذ في الأدب والتاريخ، أسماء المشاهير من العرب الذين يضرب بهم الأمثال في الكرم والجود.

وبناء على ما سبق، فقد يتساءل القارئ الكريم ويقول: "كيف يستهجن المجتمع مظاهر البذخ والتبذير، وفي الوقت ذاته نقول عن هذه المظاهر بأنها من صور الكرم عند العرب، وتعتبر من أخلاقهم الحميدة.. فكيف يستوي مثل هذا القول المتناقض؟".

الحقيقة المرة تتمثل في أن المجتمع يعاني نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة، صراعا بين قيمه وتقاليده وعاداته وبين قيم الحضارة الحديثة التي يعيشها اليوم، وظهر من جرّاء ذلك مشكلات وأمراض نفسية واجتماعية عديدة، منها البذخ والإسراف والتبذير في إقامة الولائم وإكرام الضيوف.

لا يتسع المجال هنا للحديث عن الوظيفة الاجتماعية لعادة الكرم في المجتمعات العربية عموما، ويكفي نقل صورة مختصرة ومبسطة عن مظاهر استقبال الضيوف في الماضي القريب وكيف تطورت وتغيرت في وقتنا الحاضر، حيث كانت المدن في مجملها عبارة عن قرى صغيرة، وكانت تقاليد وأعراف استقبال الضيوف آنذاك تتمثل في تقديم القهوة للضيف حسب القواعد المتعارف عليها، وتذبح الخراف ويدعى جميع أهل القرية إلى الوليمة غنيهم وفقيرهم، على حد سواء، للمشاركة في الطعام احتراما وتقديرا للضيف، وترتفع سمعة صاحب الوليمة كلما كان طعامه أدسم وأوفر، والقصص والروايات في الأدبيات الشعبية كثيرة في هذا الشأن.

أما اليوم وفي وقتنا الحاضر، فقد كثر عدد السكان وزاد مستوى التعليم وظهرت معالم الحضارة الحديثة في المجتمع، الأمر الذي أحدث تغييرا هيكليا في بنية وبيئة المجتمع ككل، وبالتالي تغيرت معها مظاهر الكرم والضيافة، خاصة مع ظهور المطاعم والفنادق حتى في القرى والمدن الصغيرة.

ولهذا فقدت عادة الكرم معناها وقيمتها ووظيفتها الاجتماعية السابقة التي كانت تؤديها في الماضي، فأصبحت مجرّد تصورات ذهنية في العقل الباطن للأفراد كتراث قديم يتغنى به الأجيال، فظهرت تلك التصرفات الشاذة في التبذير والتباهي.

لذا قد يخطئ من يقول إن "فائض الولائم يوزع على الفقراء ويسد جوع مئات الأفواه.. وهذا الهياط يعد مصدرا لإطعام الفقراء والمساكين"!، وذلك لسبب بسيط وهو أن الفقراء غير مرحب بهم في مثل هذه الولائم فهي ذات طابع خاص لا يلائم إلا الأغنياء من الناس وخاصتهم من المقربين والأصدقاء، وإنما فعلوا ذلك لوجود ترسبات قديمة من العادات والتقاليد في صراع نفسي واجتماعي مع قيم الحضارة الحديثة.

والتفاخر اليوم ونيل السمعة والشهرة يكونان في المدن عن طريق التفاخر بجمع الأموال وتشييد المباني والتقرب من أصحاب النفوذ، فهذه هي مظاهر السمعة والمكانة الاجتماعية الحقيقية بين الناس.

لقد استنكر الناس تصرفات البذخ والإسراف وتقززوا منها لعلمهم بأنها ليست من الكرم في شيء، وإن كان العرب في الماضي يريدون الشهرة والسمعة من ذلك كما يقول الشاعر العربي "أماوي إن المال غاد ورائح.. ويبقى من المال الأحاديث والذكر"، ولكن كان الجميع يستفيد من هذه الولائم، أما اليوم فالحال تغير واختلف، وأصبحت عادة الكرم مسخا اجتماعيا مشوها يعتريه الإسراف والتبذير فأصبح من الأخلاق السيئة والقبيحة، بل مرض نفسي واجتماعي في آن واحد.. وهذا ما يدعونا إلى التفكير في العادات والتقاليد التي ما عادت تتناسب مع متطلبات العصر الحديث!