مع تهاوي أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2003، وبنسبة انخفاض فاقت 75 % منذ شهر يناير 2014، تفاقم انهيار مؤشرات أسواق الأسهم المحلية والعالمية لتحصد خسائر فادحة خلال الأشهر الثلاثة الماضية تُقدر بأكثر من 13 تريليون دولار أميركي، وتعادل 80 % من قيمة التجارة العالمية السنوية و18 % من قيمة الناتج العالمي الإجمالي.
ونظراً لأن مؤشر الأسهم يعتبر المرآة الصادقة للاقتصاد، الذي يعتمد على الطاقة، فعلينا التعرف على أسباب تهاوي أسعار النفط لنفهم علاقتها الوطيدة بانهيار مؤشرات الأسهم، التي نوجزها في الأسباب التالية:
أولاً: زيادة المعروض من النفط نتيجة ارتفاع إنتاج أميركا خلال العقد الماضي بمقدار الضعف، ليصل في الأسابيع الأخيرة إلى 9.4 ملايين برميل يومياً، مما أدى إلى زيادة الكمية المعروضة في السوق الأميركي، وارتفاع كمية المخزون النفطي إلى حد لم يصله منذ 80 عاما. ونتج عن ذلك تحول صادرات منظمة "أوبك" من أسواق أميركا للتنافس في الأسواق الآسيوية. إلا أن ارتفاع إنتاج النفط في روسيا إلى أكثر من 10.7 ملايين برميل يومياً أدى إلى تفاقم كميات النفط المعروضة في الأسواق الآسيوية دون مقابل في زيادة في الطلب العالمي. كما جاء تهديد إيران، بعد إلغاء العقوبات الاقتصادية عليها، بغزو الأسواق بكميات مخزونة من النفط وجاهزة للتصدير تفوق 42 مليون برميل، ليزيد من توجس الأسواق العالمية من كميات النفط المعروضة.
ثانياً: موقف منظمة "أوبك" من عدم خفض إنتاجها أو عدم التدخل في إعادة توازن السوق المتخم بالنفط، وذلك للمحافظة على حصتها في الأسواق العالمية عند حدود 40 % في السنوات القادمة، وهي نفس الحصة التي سيطرت عليها خلال العقدين الماضيين، خاصةً أن التوقعات الصادرة مطلع العام الماضي أشارت إلى أن الصين ستصبح المحرك الأول في العالم للنمو خلال العقدين القادمين، ليزداد الطلب فيها إلى 18 مليون برميل يومياً بحلول عام 2035، متجاوزة بذلك الولايات المتحدة التي ستستهلك نحو 17 مليون برميل يومياً في ذلك العام. إلا أن تراجع نمو الاقتصاد الصيني في منتصف العام الماضي عكس هذه التوقعات، وأدى إلى انحسار الطلب على النفط، خاصةً أن الصين تشكل اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إضافةً إلى توجه معظم الدول المستوردة للنفط نحو استخدام بدائل الطاقة وتوطين تقنياتها في التغييرات الهيكلية.
ثالثاً: حرب العملات التي تستخدم أسلوباً حديثاً للمنافسة الاقتصادية، وابتكرته الدول الكبرى لتخفيض قيمة عملاتها الوطنية بهدف رفع قدرة صادراتها التنافسية في الأسواق الدولية. ويطبق هذا الأسلوب من خلال تخفيض معدل الفائدة أو دعم السياسة النقدية على حساب الشركاء التجاريين، ليصبح المستفيد الوحيد منه الدول المُصَنِعة والمُصَدِّرة للمنتجات، بينما تصبح الدول المُستهلكة، مثل الدول العربية، عرضة للضرر الجسيم بسبب ارتفاع فاتورة وارداتها. ولقد بدأت هذه الحرب في منتصف شهر أغسطس من العام الماضي 2015، حيث قامت الصين بتخفيض قيمة عملتها "يوان" بنسبة 2 % لدعم اقتصادها المتباطئ وزيادة صادراتها. ولكن على عكس توقعات البنك المركزي الصيني، انهارت أسواق الأسهم والعملات والسلع في الصين وسط مخاوف من تدهور الأعمال في بلد يعتبر من أهم محركات الاقتصاد العالمي. وكانت الصين ترغب، من خلال تخفيض عملتها، في تقليد برامج التيسير الكمي التي طبقتها أميركا واليابان ومجموعة اليورو أثناء مواجهتها للأزمة المالية الحادة في عام 2008. إلا أن ردود الفعل على تخفيض قيمة العملة الصينية جاء مغايراً لتطلعات الصين، التي تدحرجت عملتها مقابل سلة العملات العالمية بواقع 2.92 % مقابل الدولار، و3.89 % مقابل اليورو، وذلك للمرة الأولى منذ 20 عاماً. وفي يوم واحد فقدت العملة الصينية 3.5 % من قيمتها في السوق الصيني، ونحو 4.8 % من قيمتها في الأسواق العالمية، مما أدى إلى تراجع العملات الآسيوية الأخرى إلى أدنى مستوى لها في 17 عاما، فكان لارتفاع سعر صرف الدولار مقابل هذه العملات إضعاف الطلب على النفط المُقَوَّم بالدولار في الدول الآسيوية.
وتأكيداً للعلاقة الوطيدة بين الاقتصاد ومؤشرات الأسواق المالية، فإن أسباب انهيار الأسهم المحلية والعالمية في المرحلة الحالية لا تختلف كثيراً عن أسباب الانهيارات العالمية المماثلة في الماضي القريب. فالانهيار الأول الذي حدث يوم 24 أكتوبر 1929، وعُرِفَ باسم الكساد العظيم، جاء نتيجة تدهور معدلات النمو الاقتصادي في معظم دول العالم، لتفقد المؤشرات ربع قيمتها السوقية، والانهيار الثاني الذي فاجأ العالم في 14 ديسمبر 1961، أدى إلى الهبوط السريع لمؤشرات الأسهم الأميركية لتصحيح وضع سوقها المالي، بينما جاء الانهيار الثالث في 19 أكتوبر 1987 نتيجة المضاربات وبرامج الاتجار التي كانت متبعة لشراء وبيع الأوراق المالية، ليعُرَف باسم الإثنين الأسود، وبدأ من الأسواق الآسيوية مروراً بأوروبا ثم أميركا، وفقدت خلاله مؤشرات الأسهم العالمية أكثر من 22 % من قيمتها.
وفي يوم 27 أكتوبر 1997 شهدت مؤشرات أسواق المال العالمية الانهيار الرابع نتيجة الأزمة الاقتصادية في آسيا، وشمل الانهيار الأسواق الأوروبية والآسيوية، بينما جاء الانهيار الخامس بسبب هجمات القاعدة على أميركا في 11 سبتمبر 2001، الذي كبد أسواق الأسهم العالمية خسائر فادحة. ونتيجة لتعرض أميركا لتداعيات أزمة القروض العقارية وشبح الركود الاقتصادي، جاء الانهيار السادس في 26 أكتوبر 2008، لتتكبد مؤشرات الأسهم العالمية خلاله خسائر قياسية بنحو 10 %.
لذا فإن مؤشرات الأسهم تعتبر المرآة الصادقة للاقتصاد.