ربما كان جون كيري من أكثر وزراء خارجية الولايات المتحدة في العصر الحديث كفاءة في التواصل مع حلفاء أميركا وأصدقائها، وخصومها أيضاً. وهو متحدث لبق، قادر على شرح الموضوعات الصعبة بلغة واضحة ودقيقة، ومنذ توليه منصبه قابل وزراء خارجية دول مجلس التعاون فرادى وجماعات مرات عدة، وفي عهده تم تطوير التعاون الإستراتيجي بين مجلس التعاون والولايات المتحدة ليصل إلى مستوى "الشراكة الإستراتيجية" التي تم الإعلان عنها في قمة كامب ديفيد في شهر مايو 2015. وكان آخر تلك الاجتماعات الاجتماع الوزاري الذي عُقد في الرياض يوم السبت الماضي (23 يناير)، وهو الأول الذي عقده كيرى مع الوزراء الخليجيين مجتمعين منذ دخول الاتفاق النووي مع إيران حيز التنفيذ يوم السبت قبل الماضي (16 يناير).
بعد الاجتماع الوزاري يوم السبت، قابل كيري خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وزير الدفاع، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء. ثم قابل رئيس وفد المعارضة السورية الذي تم اختياره لقيادة وفدها في محادثات جنيف.
كان الغرض من اجتماع الوزراء يوم السبت مناقشة تداعيات تنفيذ الاتفاق النووي، خاصة فيما يتعلق بتأثيره على علاقات إيران بدول المجلس والمنطقة، ومناقشة القضايا الإقليمية، مثل سورية والعراق واليمن وفلسطين، والجهود الدولية والإقليمية لمكافحة الإرهاب، ومراجعة سير العمل في تنفيذ اتفاق قمة كامب ديفيد.
وبموجب اتفاق قمة كامب ديفيد أوكل إلى "منتدى التعاون الإستراتيجي الخليجي-الأميركي"، الذي أسس في مارس 2012، مهمة تسيير دفة "الشراكة الإستراتيجية" بين الولايات المتحدة ومنظومة مجلس التعاون، حيث يرأس الوزير كيري الجانب الأميركي في هذا المنتدى، وشُكلت لتنفيذ الشراكة الإستراتيجية مجموعات عمل عالية المستوى يختص كل منها بتطوير جانب من جوانب هذه الشراكة، فهناك مجموعة عمل لمكافحة الإرهاب، وأخرى للدفاع الصاروخي ونظم الإنذار المبكر، وثالثة لحماية الفضاء الإلكتروني، وغيرها، بما في ذلك المواضيع الاقتصادية والفنية.
في الملف السوري، النقطة الملحة هي كيفية مشاركة المعارضة السورية في الاجتماعات التي ستعقد قبل نهاية الشهر في سويسرا، حيث تطالب روسيا بضم أعضاء إضافيين إلى الوفد التفاوضي الذي شكلته المعارضة في مؤتمر الرياض في 8-10 ديسمبر 2015، في حين ترفض المعارضة فرض أعضاء في وفدها.
وكان واضحاً أن ثمة تطابقاً كبيراً في وجهات النظر بين أميركا ومجلس التعاون بشأن مواضيع المنطقة، بما في ذلك الموقف الموحد الرافض للاعتداءات الإرهابية على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، والموقف من بشار الأسد، ودعم المعارضة السورية المعتدلة، والتأكيد على عقد مفاوضات السلام قبل نهاية الشهر، وهي مفاوضات ستكون كما قال كيري غير مباشرة في بادئ الأمر، بل من خلال الوسيط الأممي.
وأكد كيري بوضوح "أن العلاقة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون علاقة متينة مبنية على المصالح المشتركة والدفاع المشترك"، مضيفاً أنه يجب ألا يكون هناك أي شك في ذهن أحد بأن الولايات المتحدة "ستقف بقوة مع دول المجلس أمام أي تهديد خارجي".
وأوضح الوزير الأميركي مرة أخرى بأنه ليست لديه أي أوهام بشأن تصرفات إيران في المنطقة، خاصة دعمها للإرهاب، وبرنامج الصواريخ الباليستية، وأنشطتها التي تزعزع الاستقرار في كل مكان، وأنه سيعمل مع دول مجلس التعاون لردع تلك التصرفات، مؤكداً أن الولايات المتحدة تقوم بالفعل بذلك، منفردة ومع حلفائها ما أمكن، إذ أشار إلى فرضها عقوبات جديدة هذا الشهر على إيران بسبب اختباراتها الجديدة للصواريخ، كما أشار إلى العقوبات القائمة بالفعل والمفروضة على إيران وحلفائها، خاصة حزب الله، والتي ستظل قائمة فلا ترتبط برفع العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي.
وفي الشأن السوري، قال كيري إنه على الرغم من بعض الخلافات حول تمثيل المعارضة، خاصة موقف روسيا، إلا أنه أكد التوصل إلى "تفاهمات" ستسمح بعقد مشاورات السلام الأسبوع القادم.
ولدفع محادثات السلام، أوضح كيري، ربما للمرة الأولى، أن "المجموعة الدولية لدعم سورية"، المشكلة من نحو عشرين دولة ومنظمة، ستجتمع حالاً بعد الجولة الأولى من المباحثات بين المعارضة والنظام، لتقييم النتائج ودفع عملية السلام قُدُماً.
كانت أجواء الاجتماعات إيجابية، وهناك تقدير خليجي واضح للدور الأميركي في المنطقة، وتعهداته المتعلقة بالدفاع المشترك عن دول المجلس أمام التهديدات الخارجية، ووقوفه أمام المحاولات الرامية للإبقاء على نظام الأسد، وتأكيده للوقوف أمام محاولات إيران توسيع نفوذها في المنطقة من خلال دعم التنظيمات الإرهابية، مثل حزب الله، والميلشيات الطائفية.
ولكن المواطن الخليجي، والمفكرين والكتاب في الخليج، ما زالوا متخوفين من "التحول الأميركي نحو إيران"، على الرغم من عدم وجود دلائل واضحة حوله. فإلامَ تعود هذه الشكوك في النوايا الأميركية؟ ربما كان السبب الأول هو فشل "الدبلوماسية العامة" التي كانت أميركا في الماضي تتميز بها، ففي سعيها لإقناع إيران بقبول الاتفاق النووي، تجاهلت الجمهور الخليجي ولم تحاول طمأنته. السبب الثاني لتزايد تلك الشكوك البطء الملحوظ في تنفيذ مخرجات قمة كامب ديفيد. والسبب الثالث والأهم أن "التفاهمات" الحالية قد تتغير بعد تغير الإدارة الأميركية في شهر يناير 2017، حين يبدأ رئيس أميركي جديد في البيت الأبيض، خاصة أنه ليس هناك اتفاقيات رسمية تلزم أميركا بتنفيذ ما تعهدت به في كامب ديفيد، باستثناء بعض مذكرات التفاهم والاتفاقيات المتعلقة بالتعاون العسكري.