شاهدت مقطعاً على شبكة اليوتيوب يتضمن استجواباً من إحدى اللجان الأميركية الرسمية لخبيرين قد يكونان على صلة بجهاز المخابرات حول ما أسمته الوهابية وعلاقتها بداعش، وعلاقة المملكة فكرياً بهذا التنظيم، وأفاد أحد الخبيرين بأن الوهابية ليست مثل داعش، وضرب مثالاً لذلك بأن الوهابية في السعودية لا تقتل الشيعة بينما داعش تقتل الشيعة في العراق، وقد كان المحقق يحاول جاهداً توجيه الأسئلة بطريقة تمكنه من الحصول على إدانة لما يُسميه الوهابية وإدانة للمملكة، حتى حصل فعلاً على قول الخبير إن الجذور والمنطلقات لتنظيم داعش والوهابية واحدة، وإن السعودية دولة وهابية تدعم انتشار الفكر الداعشي.

هذا المقطع على قِصَره يؤكد ما يقوله الخبراء والمطلعون من أن هناك مُخطَّطاً أميركياً يرمي إلى محاربة السلفية والتذرع بجماعات العنف المتشددة وانتمائها للسلفية في وضع المُبَرِّرات الأخلاقية لهذه الحرب، ليس هذا وحسب، بل يصل المخطط إلى محاربة المملكة بأسرها باعتبارها حاضنة للسلفية التي يُصنِّفها المُنَظِّرُون الأميركيون بأنها أصل الفكر الداعشي.

وأحب هنا أن أُرجِع القارئ إلى أحد المؤلفات المهمة في تأكيد هذا التوجه الأميركي، وهو كتاب (عندما يكون العم سام ناسكاً) وسوف يجد القارئ فيه العديد من النقول عن مراكز البحث والدوائر البحثية والشخصيات الأميركية تؤكد أن الحرب على السعودية باستخدام السلفية كحجة لهذه الحرب باتت استراتيجية أميركية ينبغي أن نفهم كثيراً من الأحداث المحيطة بِنَا من خلالها.

وأحب أيضاً أن يتنبه الكثير من الكتاب وقادة الرأي السعوديين إلى أن أي ربط بين داعش والسلفية يعتبر مطلباً أميركياً باعتباره يُمَثِّل حُجة لن يتوانى الإعلام الأميركي عن استخدامها في تبرير تلك الحرب الفكرية وربما الميدانية على وطننا أصالةً أو وكالةً، لأن أي ربط بين السلفية وهذا التنظيم بقلم أو لسان سعودي سيجعلونه تحت عنوان: (من فمك أُدينُك).     

ويجب أن يُدرِك الجميع أن الغلو في الدين يعبر عن خلل في فهم الدين يقع دائما بين فئة تقل وتكثر في أتباع الديانات كلها في كل زمان ومكان، وليس مقتصراً على دين الإسلام.

ولهذا قال تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)، وقد غلا اليهود والنصارى في عدة جوانب أبرزها، جانب العنف وجانب الرهبانية، وحديثنا هنا عن جانب العنف، فقد مارسه اليهود والنصارى عبر التاريخ مرات عديدة، قاموا خلالها بمحاولات بشعة لتصفية مخالفيهم، وقد نصت التوراة المحرفة على صور من هذه التصفية العرقية كما هو مسطور في سفر يوشع بن نون وغيره من الأسفار، حيث يروي ذلك السفر القصة المزعومة ليوشع بن نون في  استئصال الفلسطينيين بأمر من يهودا الذي كما تزعم التوراة المحرفة أعجبته رائحة شواء أجساد الفلسطينيين.

وعلى مر التاريخ شهدت العصور مجازر تصفيات عرقية بذرائع دينية من أهل الكتاب، من أبشعها مجزرة القدس سنة 492 هـ ومحاكم التفتيش في إسبانيا ومجازر البلقان في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي والتي كانت تصفية المسلمين فيها على أسس الغلو في الدين، حتى قال الشاعر أحمد شوقي وهو يُخ?لِِد مجازر مقدونيا:

ويحثه باسم الكتاب أقِسَّة    نشطوا لما هو في الكتاب حرام

وفي السنوات المتأخرة كانت مجازر الآرثوذكس ضد مسلمي البلقان أيضا وهي لا تخفى على الجميع، أما مجازر اليهود ضد المسلمين في الضفة الغربية وغزة فأشهر من أن تعرَّف، وكذلك ما فعله الأميركان والروس في الأفغان وما فعله الأميركان في العراق.

هذه أمثلة يسيرة ولو استقصينا التاريخ القديم والحديث لتأكد لنا أن الغلو في الدين والاحتجاج على الإسراف في قتل المخالف لا ينجو منهما أتباع دين.

بل الشيعة الذين يعتنقون الفكر الصفوي والقرمطي _وممثلتهم إيران اليوم هي الحليفة المبرقعة للولايات المتحدة- قاموا عدة مرات عبر التاريخ بمذابح شنيعة ضد السنة، كان آخرها ما يحدث هذه الأيام في ديالى والمقدادية على يد الميليشيات الإيرانية الصفوية، وتشاركها أيضا في هذه الجرائم ميليشيات بابليون المسيحية العراقية.هذا الجانب من الغلو يمكن أن نصفه بأنه جانب تلقائي، يكمن في نزوع بعض النفوس البشرية بطبعها إلى العنف فتختلط هذه النزعة بالتدين أياً كان المتدين، سوا أكان يهودياً أم نصرانياً أم مسلماً، فتنتج غلواً في جانب العنف، لكن الإسلام استطاع أن يحدَّ من هذا الأمر كثيراً، وذلك عن طريق الدقة والوفرة في التعاليم المحفوظة والبعيدة عن التحريف والعبث، والتي لا توجد في دين آخر، ولذلك كان المسلمون السنة على مدى تاريخهم حتى عصرنا الحاضر أقل الأمم غلوا في الدين في جانب العنف، بل حتى التطرف والغلو الموجود حالياً في المنظمات المتطرفة المنتمية للإسلام السني خاصة، كالقاعدة وداعش، أقل بكثير من الغلو والتطرف الموجود لدى الصهيونية اليهودية أو الصهيونية النصرانية أو الصفوية الشيعية.

وهذا السبب التلقائي للتطرف في جانب العنف والدماء والذي تحدثنا عن وجوده في كل أتباع الديانات يحتاج إلى عوامل تضمن استمراريته وانتشاره وجاذبيته للأتباع، وهذه العوامل من الصعب حصرها وقد وُجِد الكثير منها لدى كل أتباع الديانات التي مارس أتباعها الغلو في العنف والدماء في كل العصور، لكنني هنا سوف أقتصر على التطرف في الدماء المنسوب لفئة من أهل السنة، وأسرد بعض أسباب البقاء والانتشار المتاحة له هذه السنوات، فمنها:

1 - تصور خاطئ عن مفهوم تطبيق الشريعة والسبيل الصحيح لتطبيقها.

2 - غياب مفهوم الموازنة بين المصالح والمفاسد والموازنة بين المفاسد بمعنى تقديم أخف المفسدتين على أعلاهما عند الضرورة.

3 - غياب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الاعتبار بها في خضم ما يستجد من أحداث.

4 - عزلة هؤلاء الشباب المتطرفين عن أهل العلم، وقد حدثت هذه العزلة نتيجة سنوات من العمل غير المقصود والعمل المقصود، على تشويه صورة العلماء الحكماء في أذهان الشباب.

5 - وضوح الحرب العالمية على الإسلام والتي لم تعد تخطئها العين، وليست مقتصرة على الإعلام والفكر، بل العنف المسكوت عنه، والذي تمارسه دول كأميركا والصين وميانامار والكيان الصهيوني وإيران، أو منظمات وأفراد، وتقنع بالعنصرية في أوروبا والأميركتين، وهذا العنف الخطير يعتبر أبرز الحجج والشعارات التي يعرفها التكفيريون لإثبات كفر الأنظمة واستحلال دماء العاملين فيها، على اعتبار أنهم راضون بما يحدث لإخوانهم من قتل وتصفية. 

6 - ظلم وجور أكثر الحكام المسلمين واستهانتهم بالشريعة جملة وتفصيلاً، بل ضعفهم الشديد ولو في الجانب الإعلامي فقط عن مناصرة قضايا المسلمين العادلة في كل مكان، الأمر الذي جعل لكل الدعوات الثورية والتكفيرية في نفوس الشباب جانباً من المصداقية ساهم في تبرير التطرف.

7 - استغلال أجهزة الاستخبارات المختلفة إيرانية وصهيونية وأميركية وأوروبية وروسية لهذا التوجه، والعمل على اختراق هذه الجماعات أو إنشاء جماعات تحت قيادات عميلة لهم، وذلك بقصد تمرير مشاريعهم بطريقة يطول شرحها، لكن هذه الأجهزة الاستخباراتية وفرت غطاء إعلامياً وتغاضياً سياسياً وتمكيناً مادياً، بل وهيأت ظروفاً تجعل دعوات هذه الجماعات أكثر إقناعاً.

8 - استغلال منظري الجماعات لنصوص من الكتاب والسنة متشابهة، أو نصوص تعسفت في حملها على نظرياتها التكفيرية، وذلك للحصول على مزيد من القدرة الإقناعية على جلب الأتباع، أو التبرير للنفس، لأن كثيراً منهم يعتنقون الفكر التكفيري المتطرف الدموي قبل البحث عن دليل له.

نخلص من ذلك إلى أن نسب العنف والتطرف إلى الفكر السلفي يعبر عن سطحية في تقدير الأمور، والمشكلة في هذه السطحية أنها ليست مجرد رأي أو انطباع يتفوه به شخص ما، بل أصبحت بمثابة وثيقة تُستخدم في تبرير سياسات دولية لا تريد ببلادنا خيراً.