أحيانا تبحث عن الكلمة المناسبة من بين آلاف الكلمات التي تسبح في فضاء روحك؛ كلمة تلهمك وتخرجك من أعماق المأساة التي تعيشها في لحظة ما، تدفع الهدوء إلى نفسك وتداوي جرحا ينزف.. عمرا ينزف.. زمنا ينزف حياة.. حياتك.

كلما خسرت نفسا عزيزة على نفسي أعود إلى نقطة الصفر وأذكره، ويعاودني الألم وكأن لحظة الفراق تأبى إلا وأن تعود لتفتح باب ذكرياتي معه؛ صوته دفء أحضانه نور ابتساماته اللهفة في عينيه كلما نظرت إلى وجهه، وكأنني لسبب أجهله كنت أعلم بأن وقته معنا سوف يكون قصيرا... كم تحرقني تلك الأدمع التي كانت تسبح في عينيه عند آخر لقاء كان بسبب تركه أخي الصغير معنا ولأول مرة، نعم ربما لم تكن تلك الأدمع لي ولكنها تملكت كل ذرة من كياني، سرقتها من أخي وسجلتها في تاريخي... كلمتي السحرية هي "أبي". إن هويتي بكل ما فيها من إيمان وعروبة وجذور ضاربة في أعماق تربة بلادي باسقة إلى سماء أمتي، ما هي سوى خلاصة ثلاثة أحرف؛ ألفٌ... باءٌ... وياءِ، قد ننسى الأدمع التي أحرقت وجوهنا ولكننا لا ننسى ألم الفراق.

في الأسبوع الماضي فُجعنا بفراق إنسانة غالية على قلوب الكثير، بل الآلاف ممن كان لها التأثير على حياتهن، إنسانة أعطت من غير أن تتوقع أي مقابل؛ أبلة بهية نقادي صاحبة الابتسامة التي لم تكن تفارق وجهها حتى في أحلك أوقات مرضها التي كانت تعانيه، وتوفت إلى رحمة الله تعالى بسببه. إنها مديرتي التي تعلمت منها كيف تغرس الإنسانية بالعمل، علمتنا بأن الرحمة هي أولا وثانيا وأخيرا. لقد كانت معي اليوم وأنا أختبر إعادة لطالبة فقدت والدها في نهاية الترم الماضي ولم تحضر الاختبار النهائي، كنت منشغلة في قراءة أوراقي ورفعت نظري فرأيتها شاخصة البصر تنظر إلى لا شيء! تركت مكاني وجلست إلى جانبها وقلت لها: يا ابنتي إنها فرصتك الأخيرة فإن لم تقومي بالإجابة فسوف يكون لزاما عليك أن تعيدي المادة... ثم رأيت صورتها أمامي، رأيت عيناها وهي تنظر إليّ معاتبة وكأنها تقول لي: "هل هذا ما علمتك إياه؟!"، هنا تراجعت وأخذت نفسا عميقا ثم وضعت يدي برفق على كتفها وأعدت صياغة كلماتي، وطلبت منها أن تنظر إلى الورقة وتنتقي سؤالا لنبدأ سويا منه، ففعلت وأخذت أعيد الصياغة لكل ما تشير إليه فأجد أنها كانت تعرف الإجابة ولكنها بسبب اضطرابها وحزنها فقدت بعض الثقة بقدراتها ومعلوماتها، ولم أتركها حتى انتهت من الاختبار وخرجت وهي مرتاحة.

أعترف بأنني في بداية حياتي العملية كمعلمة كنت شديدة، بل متمسكة بالنظام، حسب ما تعودت عليه في دراستي في الخارج، فلا عذر يُقبل ولا تأخير مهما كانت الظروف، لا توجد إعادة وإن لم تقم بالإجابة الصحيحة، ليست مشكلتهم، عليك بالتسجيل للاختبار الذي بعده إن كان عامّا، أو التسجيل من جديد إن كان الاختبار خاصّا بمادة معينة. ولكن حين دخلت حياتنا أبلة بهية تغيرت، لم يكن تغيرا فجائيا أو سريعا ولكنها صبرت وأصرت على أن أُخرج بيدي تلك الإنسانة التي كانت متأكدة أنها بداخلي لترى وتتعلم كيف تكون الإنسانية.

لم تكن مجرد مديرة بل كانت قدوة حية أمامنا نرى ونسمع ونتفاعل، كانت حليمة في غضبها حين نخطئ، وصبورة في تحمل تذمرنا واستيعابنا بمحبة وابتسامة، ومع مرور الزمن شهدت كيف أنها كانت تساعد ليس فقط الجميع في مدرستنا، بل الكثيرات غيرهن من مدارس أخرى، خاصة المدارس العامة؛ من طالبات ومعلمات وإداريات وأولياء أمور، هذا غير أياديها البيضاء التي كانت ممدودة للغير من خلال الأعمال الخيرية.. كان هاتفها بالكاد يهدأ، الجميع كان يطمع في مساعدتها وعونها، وهي لم تكن ترفض أو تعطي تبريرات كل ما كانت تقوله: "بإذن الله سأحاول وإن شاء الله خيراً"... تحاول! بل إنها كانت تجاهد من أجل أن ترسم تلك البسمة على وجوههن. كل مشكلة كان لها ألف حل وألف طريق، علمتنا أنه دائما هنالك مفصل متى ما توصلت إلى معرفته نستطيع أن نفكه ونصل.

نعم قد يكون الحزن هو الثمن الذي ندفعه لفراق من نحب، ولكن في قلب ظلمات الألم نبض يشع نورا، إنه نور الأرواح النقية التي لازمتنا زمنا وارتقت إلى ملكوت الرحمن، نتذكر الضحكات ونتذكر البسمات وبين الضحكة والبسمة نعود لنغرق في بحر من المحبة والمودة، لأنهم كانوا هدية الرحمن إلينا... لأنهم كانوا يوما معنا... ولأنهم كانوا كنا.... تعلمنا كيف نُقدّر الجمال وكيف يكون طعم العطاء، تعلمنا كيف نبحث عن أفضل ما بداخل الآخر؛ كيف نراه وكيف نمهد له الطريق ليرى النور، كيف نطرب لأنشودة الحياة وكيف يبقى نغم لحنها في أرواحنا كعبق زهر الربيع، وإن كان شتاء أو خريفا.

وأعود إلى ألفي وبائي ويائي، لأتمايل حبا وطربا وأغزل أحرفي تعابير أغرد بها نغما يملأ حياتي... أبكي حرقة على الفراق وأبتسم فرحا على نعمة حياة كانت له يوما وحين رحل وتركها استوطنت روحي؛ بداية ونهاية أبجدية؟! بل هي كل الأبجدية، علمتني كيف أقرأ الجمال وأقدر الطيبة وأذوب بين أسطر الإنسانية... الإنسانية التي رأتها عيون أبلة بهية فأطلقتها من داخلي ورحلت تاركة جزءا منها داخل روحي، تاركة تاريخا يشهد لها بالعطاء والتفاني حين كانت معلمة، وحين كانت مديرة التعليم الأهلي، وحين كانت مديرة مدارس دار الفكر. ستبقى دائما تلك البسمة والفرحة والقلب الطيب في حياة كل من عرفها.. اللهم ارحمها واجعل مثواها الفردوس الأعلى، اللهم ارحم أمواتنا وأموات المسلمين، اللهم آمين.