لا يخفى على أي محامٍ أو مختص بالتجارة مدى تخوّف الشركات الأجنبية خصوصا من غموض القانون لدينا، نظرا لعدم وجود تقنين في أغلب القضايا التي تحتاج إلى قانون واضح، ولا شك أن هذا يتسبب سنوياً في خسارة المملكة مليارات من الأموال التي تخرج للخارج أو تتردد في الدخول للسوق السعودي لنفس السبب!

ولكن بعد صدور نظام التحكيم عام 1433؛ أباح النظام للمتنازعين اللجوء لأي قواعد موضوعية حتى لو كانت غير النظام السعودي، ما لم تخالف الشريعة الإسلامية أو النظام العام، وهذه الفكرة مهمة وهي تأتي متواكبة مع أغلب قوانين التحكيم الحديثة في العالم، والتي تبيح هذا الأمر في ظل تداخل العلاقات التجارية دوليا، والحاجة لسرعة الفصل في النزاعات.

تشرفت بتقديم جزء من برنامج تأهيل المُحكّمين التابع للمركز الخليجي للتحكيم بالتعاون مع غرفة الرياض، ورأيت مناسبة طرح بعض الأفكار المهمة حول التحكيم، خاصة أن موضوع التحكيم كان جزءا من دراسة تطوير المنظومة القضائية التي شاركت في تقديمها لمنتدى الرياض الاقتصادي الأخير.

أعود لنظام التحكيم وكيف أنه فتح الباب للأطراف الأجنبية بإعادة النظر في الحكم على القانون السعودي؛ ولكوني محامياً لي تواصل مستمر مع شركات أجنبية كثيرة، نجد الكثير منها تشترط اعتماد قانون وتحكيم أجنبي ليكون حاكما للعلاقة عند الخلاف، والسبب في الحقيقة هو عدم وضوح النظام لدينا في كثير من الجوانب بسبب منع التقنين الشريعة، ولذا يصرون على اختيار قانون أجنبي وكثيرا ما يتم اختيار القانون الإنجليزي لشهرته.

ولكن بعد صدور نظام التحكيم 1433، فقد انفتح الباب بناء على المادة 38 فيه، بأنه يجوز لطرفي أي اتفاق أن يختارا أي القوانين التي يشاءان ليكون قانونا حاكما للعلاقة من خلال التحكيم التجاري الدولي، ولكن بشرط ألا يخالف الشريعة والنظام العام، وهذا المبدأ بالمناسبة مطبق في أغلب دول العالم المتقدم (أعني اشتراط عدم مخالفة النظام العام)، وقد كان هذا المبدأ غير مسموح به بناء على النظام القديم. كما أن النظام تجاوز هذه النقطة التي يكون فيها طرف أجنبي إلى إباحة هذا التصرف حتى لطرفين وطنيين ليختارا قانونا أجنبيا ليحكم أي نزاع مستقبلي بينهما (المادة 38/1)، ولكن بنفس الشرطين السابقين، وهذا المبدأ مطبق أيضا في معظم قوانين التحكيم العالمية، ومن بينهما القانون النموذجي الذي صدر من لجنة القانون التجاري الدولي التابعة للأمم المتحدة والمعروفة بـ(UNCITRAL).

كما أن النظام قد أسبغ النهائية على الحكم التحكيمي، بمعنى أن الحكم يعتبر نهائيا ولا يجوز الاستئناف عليه، كما أن المحكمة المختصة عند المصادقة على الحكم؛ لا يجوز لها أن تعيد فحص الوقائع والتدخل في موضوع النزاع، وهذا أمر جيد يساعد كثيرا على سرعة إنهاء الحكم، إلا أن الكثير من التدخل في الموضوع يقع تحت مبدأ معارضة الشريعة أو النظام العام بناء على اجتهاد ورؤية القاضي الشخصية، وهذا قد يعيدنا إلى النقطة الأولى من عدم الوضوح في النظام، كما أن آلية عمل القضاء في كثير من المحاكم تعقد المشكلة أيضا، حيث لا توجد مبادئ أو سوابق تلتزم بها المحاكم سوى اللجان شبه القضائية غالبا، وهذا يجعل تحديد القانون الواجب في كثير من الحالات لا يمكن التنبؤ به قبل وقوع النزاع، مما يجعل الأطراف خصوصا الأجنبية تتخوف كثيرا.

نقطة أخرى؛ وهي أن مكانة المملكة الكبيرة تنتظر بدء مركز التحكيم التجاري السعودي الذي صدر الأمر بتأسيسه، وتم تشكيل مجلس إدارته والإدارة التنفيذية له، وكلنا تفاؤل بهم وكفاءتهم، ونرجو أن يبدأ العمل به قريبا، وفي هذا السياق؛ أحببت ذكر بعض المعلومات التاريخية عن التحكيم وبداياته بشكل مهني حديث، حيث كانت أول ممارسة له بشكل مهني حديث في بريطانيا عام 1883، أي قبل أكثر من 130 عاما، وبدأ تحت مظلة محكمة مجلس العموم الخاص بمدينة لندن (The Court of Common Council of the City of London)، ثم صدر أول قانون تحكيم إنجليزي في عام 1889، وبعدها تم إنشاء غرفة لندن للتحكيم (The City of London Chamber of Arbitration) عام 1891، ثم أنشئت محكمة لندن للتحكيم (The London Court of Arbitration) وذلك عام 1903، واستمرت تطورات كثيرة إلى أن تم أخيرا إنشاء محكمة لندن للتحكيم الدولي (The London Court of International Arbitration) عام 1981، وهي إحدى أهم مراكز التحكيم العالمية. وربما كان سبب تسميتها بمحكمة كونها تقوم ببعض أدوار القضاء المساند لعملية التحكيم بالرغم من أن التحكيم مختلف عن القضاء، فهي تقوم من تلقاء نفسها بتشكيل هيئة التحكيم عند الحاجة وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها القضاء لدينا حسب نظام التحكيم السعودي على سبيل المثال.

أخيرا أقول؛ إن العناية بالتحكيم من قبل الجهات المختصة في غاية الأهمية كونه يساعد على الفصل في النزاعات التجارية ويخفف الضغط عن المحاكم، ومن أهم الواجبات هو سرعة إنجاز اللائحة التنفيذية للتحكيم التي لم تصدر حتى يومنا هذا بالرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على صدور النظام، كما أتمنى أن تكون اللائحة على مستوى جيد من حيث المهنيّة المأمولة.