ألم يحن بعد كل هذه الجرائم المروعة التي جعلت الحضارة الإنسانية في خطر، ودمرت الأوطان نتيجة فكر متطرف يسيء للإسلام أن نتعاطى مع هذه الأزمة بطريقة علمية وموضوعية دون اختزالها في أسباب تخدم مصالح هذا أو ذاك الفريق؟ أليس التشخيص الصحيح للمشكلة هو نصف الحل كما يقال؟

 فما إن أخذ الإرهاب طابعا دوليا متسلحا بفكر يقصي فيه الإنسان أخيه الإنسان رافضاً فكر الانتماء للوطن وثقافة المواطنة مهدراً طاقات الشباب بسرقة عقولهم بفكر متطرف فاسد إلا وخاض بعض النخب الدعوية والفكرية والثقافية معركة ظنوا أنها ضد الإرهاب وفي الواقع لم تكن سوى معركة لا طائل منها، اتسمت بالاتهامات والاتهامات المضادة دون الوصول إلى نتائج إيجابية وملموسة تسهم في التصدي لهذه الآفة الخطرة، لقد تناسوا عن عمد أو عن غير عمد أن صياغة بعض التاريخ الإسلامي والوارد في الخطاب الإسلامي هي من أسهم مساهمة فعالة في نشوء الفكر المتطرف وازدهاره للأسف الشديد.

 لقد كان الحديث عن المثالية بطريقة أو بأخرى عند وصف الحضارة الإسلامية مكمن الخلل، وأن هذه المثالية لن تعود بما فيها من مجد وعزة إلا بعودة الخلافة الإسلامية، تلك المثالية البعيدة كل البعد عن الواقع، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، كيف تتوفر المثالية وهناك قاعدة شرعية تقول إن الإنسان غير معصوم عن الخطأ.

 إن فكرة المثالية التي تحلم بها الحركات الإسلامية وروجت لها، وأكدت بكل الوسائل المتاحة لها بأن الطريق إليها يكون عبر الخلافة أنتج فكراً متطرفاً نجم عنه تناقضاً يزداد يوماً بعد يوم، خاصة في سلوكيات هذه الحركات الإسلامية مع استغلال عجيب للقواعد العقدية والفقهية وتوظيفها لخدمة مشروعها، لا لخدمة الدين الإسلامي. هذا التناقض كان الوسيلة لإخفائه من قبل هذه الحركات هي إلغاء مبدأ نقد الذات والمراجعة لتقويم الفكر وإصلاحه، واستخدام أسلوب الإقصاء والإسقاط وصناعة أعداء وهميين بدلا عنه، والترويج لنظرية المؤامرة، والأدهى من ذلك كله العمل على ترسيخ الابتلاء الرباني وراء كل فشل يلحق بالحركة.

 ومع أننا ندرك جمعيا أن الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره جزء من إيمان المسلم، ولكن لا تناقض ولا يوجد مانع في نقد الذات ومراجعة وتقويم الحال مع هذا الإيمان.

 إن أبسط مثال يمكن أن يورد في هذا التناقض علاقة تنظيمات القاعدة وداعش الإرهابية وتنظيمات إيران الإرهابية في العراق وسورية ولبنان كحزب نصرالله، فالطرفان يعلنان العداء لبعضهما ومع ذلك لم يقم تنظيم القاعدة ولو مرة واحدة أو حتى داعش بتنفيذ أي عمل إرهابي في الأراضي الإيرانية رغم أن جرائم داعش والقاعدة تشهد لها أوروبا وأميركا والخليج العربي وإفريقيا وشرق آسيا، وبالمقابل توفر إيران لهذه الجماعات طريقا آمنا عبر أراضيها لمناطق التوتر والصراع، بل أيضاً وفرت لبعض قادة تنظيم القاعدة وأسرهم ملاذاً آمنا في إيران.

 ومن أوجه التناقض العجيب أن أفكار سيد قطب تعد جزءاً من الدستور الفكري لتنظيم القاعدة وداعش، وكذلك للنظام الإيراني وميليشياته، فقد امتدح المرشد الإيراني خامئني سيد قطب في أكثر من مناسبة، بل إن الأمر تجاوز ذلك في قيامه بترجمة كتب سيد قطب للفارسية.

 مسلسل التناقض طويل، وما سبق مثال فقط لإرهاصات وعواقب مفهوم المثالية المطلقة وحلم عودة الخلافة.

 من المهم أن نقول إن الخلافة الراشدة انتهت بوفاة الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما تلاه وحتى سقوط الدولة العثمانية لا يعد وفق مفاهيم الشرع الحنيف وواقع المعطيات والأحداث التاريخية خلافة إسلامية، كما أن العمل على الانتقاص من الحضارات الأخرى وكأنها لم تقدم شيء للإنسانية وبالمقابل تمجيد الحضارة الإسلامية تمجيدا مبالغا فيه أدى إلى الإساءة إلى الإسلام، وتعطيل الفكر وإيقاف العقل عن العمل وإلى ضبابية في الفهم العميق لمفهوم الإنسانية.

وأن إنجازات كل حضارة هي امتداد لسابقتها، والحضارة الإسلامية حضارة عظيمة قدمت للإنسانية إنجازات خالدة، ولكنها لم تكن خالية من بعض الإخفاقات الناتجة من النقص الإنساني وليس من الدين الإسلامي.

 قد لا يروق للبعض ما كتبت ولكن الأهم أن علينا أن نكون واقعيين في الطرح وأن نتحلى بمسؤولية عميقة تجاه الوطن والأجيال القادمة لكي نصنع منهم بناة وطن يسهمون في تحقيق الحلم السعودي الذي صنعته بامتياز عبقرية المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وأن نعمل معاً نحو الحفاظ على أمن واستقرار ونماء وتنمية الوطن بالعرق والدم وبعقول أكثر نضجا وإدراكا لواقع الأزمات والقلاقل التي تحيط بنا، وأن يتعاطى الخطاب الإسلامي مع التاريخ بطريقة مختلفة عما هو معمول به حاليا.