تحدثنا في مقال سابق عن دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي عن طريق الاستعمار الغربي الحديث، بعد أن كانت خاصة بالغرب حتى القرن التاسع عشر، وكان ذلك في مصر أولاً بحكم تطورها ومكانتها واستقلالها النسبي عن الخلافة الإسلامية والسلطان العثماني منذ ولاية محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر.

وكانت القصة قد بدأت عندما رفع النظام الحمائي للصناعة والتجارة الذي أقامه محمد علي باشا في مصر، وتزايد نفوذ التجار الأجانب في مصر، ونشأت في عهد الخديوي سعيد في سنة 1855م أول محكمة تجارية مختلطة بين المصريين والأجانب ومجلس للتجار. ومن هنا بدأ تسلل القوانين الوضعية الفرنسية شيئا فشيئا للبلاد، وبذلك فإن التسلل القانوني سبق الاستعمار العسكري للبلاد.

وقد استعان الغرب الاستعماري بعدد من أبناء العالم العربي، خاصة من الأقلية المارونية من أمثال فرح أنطون (1874م – 1922م) والذي يعد من أوائل دعاة العلمانية في مصر، بل وعلماء الأزهر مثل الشيخ علي عبدالرازق (1887م – 1966م) في كتابه الذي صدر عام 1925 بعنوان (الإسلام وأصول الحكم)، وفيه تجسيد للفهم الخاطئ الذي يصور الإسلام كالنصرانية دينا لا دولة.

وفي مواجهة هذه الهجمة العلمانية الشرسة انبرى علماء مثل رفاعة الطهطاوي (1801م – 1873م) وكان من رواد التجديد والإحياء الديني، كما كان أول من انتقد تسلل قانون نابليون التجاري الوضعي العلماني، وأكد على إضافة الشرع إلى العقل فيقول (إننا لا نعتد بالتحسين والتقبيح العقليين إلا إذا ورد الشرع بالتحسين والتقبيح). ودعا إلى تقنين فقه المعاملات الإسلامي، فاستجاب لدعوته أحد رجال القانون البارزين والمبدعين، وهو محمد قدري باشا (1821م - 1986م)، فقام بتقنين فقه معاملات المذهب الحنفي، وقدم بذلك البديل الإسلامي في القانون.

ومن رواد الإحياء كذلك موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني، ويتجلى فكره في مقولته (لقد علمتنا التجارب أن المقلدين في كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبيل، ويقتحمون الأبواب ثم يُثبتون أقدامهم)، ومن بعده تلميذه الإمام محمد عبده (1849م – 1905م) الذي واصل المسيرة فدعا إلى إسلامية النهضة، لأن الإسلام دين حياة ومنهاج شامل، فيقول عن الإسلام (فهو كمال للشخص وألفة في البيت ونظام للملك، ولأن سبيل الدين لمريدي الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها).

وكانت مجلة المنار للشيخ رشيد رضا (1865م - 1935م) على مدى أربعين عاما حاملة لهذه الرسالة. ثم انبرى الشيخ حسن البنا لينقل هذه المفاهيم من الخاصة إلى العامة ومن طبقة المثقفين المفكرين إلى سواد المجتمع.

إن خطورة الغزوة الاستعمارية الغربية إلى بلاد الإسلام بمفهومها للحرية الإنسانية المتحررة من أي ضوابط شرعية في أنها تتعارض كليا مع مفهوم الاستخلاف الذي من أجله خلق الإنسان.. أن تضبط حرية الخليفة بالمنهج والشريعة السماوية التي هي في جوهرها معالم التدبير الإلهي للاجتماع الإنساني.

ولقد نجحت هذه الغزوة الشرسة على بلاد الإسلام على قدر تغلغل وتطور أدوات العولمة في تلك البلاد، وبغض النظر عن ادعاء هذه الدول اتباع تعاليم الشريعة الإسلامية، بل وقد يكون هناك دول تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية وهي تمثل أصدق صور العلمانية الشاملة، في حين أن قرى صغيرة لا تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية ومع ذلك فإن العلمانية فيها لم تتغلغل نظرا لبعدها عن أدوات العولمة، وهي بذلك أقرب لروح الدين وأبعد عن العلمانية الشاملة.

وتعمل أدوات العلمنة من خلال أبسط الأشياء لتتغلغل وتصل إلى باطن الإنسان، بل على مستوى الأحلام والأفكار والرغبات.

ويضرب الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه أمثلة عديدة لأدوات العولمة التي تحيط بنا من تصميم لمنزل البيت ليكون منزلا وظيفيا ليست فيه خصوصية، إلى الطعام الوظيفي (الهامبرجر – البيتزا)، إلى سيارة مستوردة حديثة تصبح جزءا من الهوية، إلى أغنية حب رومانسية تتغزل بالمعبودة وتستخدم ألفاظا كانت في السابق محفوظة ومكرسة للرب والإله فقط، إلى فيلم أميركي يقوم بعلمنة الوجدان، بطله لا يؤمن بأي مرجعيات أخلاقية سوى القوة والعنف ويقع في الحب الشهواني، إلى أفلام الكارتون مثل توم وجيري التي تعد بناء على دراسات علمية من أكبر آليات تعميق فكرة فض أي نزاع أو حسم أي مشكلة عن طريق العنف في الأطفال.

بل تعد كثير من المنتجات الحضارية اليوم والتي تبدو بريئة جدا من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة كما سماها الدكتور عبدالوهاب المسيري، ويضرب لها الأمثال مثل التيشيرت Shirt T- الذي يكتب عليه (اشرب كوكاكولا)، فقد تم توظيف الرداء الذي كانت وظيفته سابقا ستر عورة الإنسان ووقايته من البرد والحر وربما للتعبير عن هوية صاحبه، تم توظيفه في عالم العولمة ليصبح مساحة إعلان، وأصبح الإنسان ذاته لا خصوصية له، وتمت برمجته حتى لا يتجاوز عالم الحواس والطبيعة والمادة، وبذلك فإن عملية التوظيف هذه أفقدت إنسان العولمة هويته ليصبح بائعا (مساحة صدره) ومستهلكا لكوكاكولا.

ومن أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم، الإعلانات التلفزيونية التي قد تبدو ظريفة طريفة خفيفة الظل مسلية، بل وبالغة البراءة، فهي تروج لرؤية للعالم دعامتاها الجنس والاستهلاك، وبذلك يتم تعظيم هاتين القيمتين في أعين ووجدان الإنسان، وهذا بالفعل ما نجحت هوليوود في تحقيقه من علمنة وجدان سكان الكرة الأرضية.

ومن الأدوات الأخرى الفعالة، انتشار المصنع والسوق كوحدات أساسية ومركزية أفرزت ما نسميه بأخلاقيات السوق وقوانين البيع والشراء والطلب، وما لكل هذا من تأثير على علمنة وجدان الإنسان الأميركي وتهميش القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية.. كل ذلك أدى إلى تغيير جذري في طريقة تفكير ووجدان الإنسان في عصر العولمة، وأصبح يفكر بطريقة هندسية آلية مادية كمية ويسميها موضوعية، وأصبح الإيمان محصورا في نطاق الشعائر التعبدية، وأصبحت المادة منفصلة عن القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية، وتوظف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبذلك أصبحت كل قيمة أخلاقية لها قيمة نسبية، وليس هناك أي مطلقات، وأفرز كل ذلك قاعدة (البقاء للأصلح)، بدلا من أن تكون (المكوث للأنفع)، وبذلك أصبحت بنية المجتمع نفسها تولد رؤية معرفية أخلاقية علمانية شاملة.

وفي مقال قادم -إن شاء الله- سنتحدث عن علمنة الحياة الاجتماعية، وتأثير العلمانية على المرأة ودورها الأسري وكيان الأسرة.