من المهم جدا حين ننظر إلى فتاوى ابن تيمية -أو غيره من العلماء- لا سيما فيما لا يخص العبادات المحضة، أن ندرس "السياق" الذي نتجت فيه تلك الفتاوى، ففتاوى ابن تيمية، يرحمه الله، ليست وحيا يوحى، ولا هي نزلت من السماء؛ بل هي منتج اجتهادي ظهر في سياق وظروف اجتماعية وسياسية.
في هذه المقالة التي لا تتسع لسرد تفاصيل التاريخ؛ أريد فقط أن أقدم للقارئ لمحة خاطفة عن الأحوال التي فيها أطلق ابن تيمية فتواه في التتار، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتب التاريخ، والتراجم والطبقات.
أما التتار (أو المغول) فقد كانوا قبائل وثنية، هجموا كالجراد من المشرق، ما مروا بقرية إلا وجعلوها خرابا، وأوسعوا أهلها قتلا ونهبا وأسرا، وعلى يدهم سقطت الخلافة العباسية.
ملك من ملوك التتر من أحفاد جنكيز خان هو الملك محمود غازان اعتنق الإسلام عام 694هـ - أي قبل غزو التتار لدمشق بأربع سنين فقط، وفشا الإسلام في التتار لهذا السبب، أي إنهم كانوا مسلمين جددا لم يتأدبوا بآداب الإسلام ولم يفقهوه، وكان لهم دستور "يعظمونه ويقدسونه" يسمى (الياسق). في عام 699 هـ قرر غازان غزو الشام، أما المماليك (الذين كانوا يحكمون الشام ومصر) فكان النزاع بينهم قائما - حتى أثناء غزو التتار للشام - هذا يمكر بذاك، وذاك يتآمر على هذا.
وانتشر خبر زحف التتار إلى دمشق، ففزع الناس وفر كثير منهم، وغلت الأسعار، وشح الطعام، وبخل كل بما عنده خوفا من الحرب والحصار، وهب الفقهاء يدورون على العساكر يعظونهم ويثبتونهم ويحفزونهم للثبات، واقترب التتر من دمشق، قال المقريزي: "فدخلوها يوم السبت أول ربيع الآخر وقد توجه أكثرهم على الساحل إلى مصر، فما هو إلا أن دخلوا دمشق حتى وقع الصارخ بمجيء غازان فخرجوا بعد نحو ساعة من قدومهم وتركوا سائر ما لهم" أما أهل دمشق "فتشتتوا في سائر الجهات ومر بالعسكر من العشير والعربان أهوال وأخذوا أكثر ما معهم نهبا وسرقة".
يتابع المقريزي: "هذا وأهل دمشق قد وقع بينهم في وقت الظهر من يوم السبت أول ربيع الآخر ضجة عظيمة فخرجت النساء باديات الوجوه وترك الناس حوانيتهم وأموالهم وخرجوا من المدينة، فمات من الزحام في الأبواب خلق كثير وانتشر الناس برؤوس الجبال وفي القرى، وتوجه كثير منهم إلى جهة مصر، وفي ليلة الأحد: خرج أرباب السجون وامتدت الأيدي لعدم وجود من يحمي البلد".
وقام جماعة من العلماء من أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، وانطلقوا إلى غازان وسارعوا بأخذ الأمان لأهل دمشق كافة.
ولكن غازان لم يف بوعده؛ فعاث جنده من التتر بالغوطة فسادا، يسرقون وينهبون ويقتلون، وتمكن في البلد، وصار يدعى له على المنابر باسم سلطان المسلمين حامي حمى الدين.
وبعد هذا بأيام حوصر جبل الصالحية (حيث يكثر فيه علماء الحنابلة وفقهاؤهم)، وتم نهب الناس ولم يبق التتار شيئا، "حتى أخذوا ما بالجامع والمدارس والتراب من البسط والقناديل ونبشوا على الخبايا -أي ما يخبئه الناس حيث لا يكاد يعلم أحد-، وجرى فيها قتل كثير، وسبي، واغتصبت النساء الحرائر المستورات، وأحرقت المدارس والمساجد، وقتل غير قليل من العلماء الأفاضل. قال المقريزي: "فبلغت عدة من قتل وأسر منها تسعة آلاف وتسعمائة نفس، ولما فرغوا من الصالحية صار التتر إلى المزة وداريا ونهبوهما وقتلوا جماعة من أهلهما فخرج ابن تيمية إلى غازان ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه"، ويصف المقريزي هول ما فعله التتار فقال: "فضربوا الناس وعصروهم وأذاقوهم الخزي والذل، وكثر مع ذلك القتل والنهب في ضواحي دمشق".
وهنا كان لابن تيمية مع الملك غازان الجبار المهيب موقف بطولي حقا، لا يفقهه إلا الأبطال الشجعان القوالون بالحق، ورفع صوته ودعا عليه، واستطاع أن يفك أسر المأسورين، ويستعيد من سباهم التتار من أهل دمشق.
ومن يقرأ كتب الطبقات يجد أسماء كثيرة من الأعلام الكبار من الفقهاء قتلوا على أيدي أولئك الوحوش؛ فمن فقهاء الحنابلة الذين أعدمهم التتار؛ الشيخ سيف الدين أبو بكر بن الشهاب النابلسي، ومنهم علي بن شمس الدين بن عبدالرحمن بن أبي عمر المقدسي (من آل قدامة الحنابلة المشاهير)، ومن الحنابلة من عذبهم التتار حتى الموت؛ فمن أولئك الفقيه علي بن أحمد بن عبدالدائم، كان رجلا "مقعدا" في بيته، أحمى التتار له الأسياخ وحرقوه بها وهو حي حتى قتلوه (يرحمه الله)، وكذا أخوه عمر بن عبدالدائم مات من شدة التعذيب كذلك، ولم ينج من بطش التتار ووحشيتهم حتى المستورات، ومنهن الشيخة المحدثة الفاضلة حبيبة بنت أحمد بن محمد بن الحافظ عبدالغني المقدسي (والحديث عن السادة المقادسة من الحنابلة ذو شجون)، هذه الشيخة الفاضلة الشريفة، آذاها التتار وبقيت عريانة، فصبرت واحتسبت.
هذا غيض من فيض، مجرد لمحة خاطفة لا تعبر عما جرى بكامل الوصف، مما فعله التتار بأهل الشام، ومما عذبوا ونهبوا وسبوا وسرقوا وانتهكوا الأعراض وقتها.
في مثل هذه الظروف والسياقات سئل ابن تيمية عن هؤلاء التتار، ففصل أمرهم تفصيلا، وأمر بجهادهم وقتالهم، بل جاهدهم بقلمه وبيانه وسنانه.