"لسراة الليل هتف الصباح" هذا هو اسم الكتاب الذي أنصح به من أراد أن يقرأ عن تاريخ الملك عبدالعزيز وتأسيس المملكة وكيف تم بناؤها، وسأعود لأقول لماذا اخترت هذا الكتاب وميزته عن غيره. لا أزعم أنني قرأت كل ما كتب عن تاريخ المملكة فما كتب كثير، لكن من المهم أن نميز بين ثلاثة أصناف من تلك الكتابات، الصنف الأول هو كتابات المستشرقين، وهؤلاء برغم اتباعهم للمنهجية العلمية والتحليل، إلا أن كتاباتهم تبقى مشكوكاً في نواياها، من ناحية، فالمستشرقون، لا يمكن أن ينفكوا من تهمة التبعية للاستعمار والإمبريالية ودوائر الاستخبارات العالمية، ونظرة في كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" تؤدي لهذه النتيجة، الصنف الثاني، هو الكتابات العربية، ولعل أهمها ما كتبه: محمد جلال كشك: السعوديون والحل الإسلامي، الصنف الثالث هو ما كتبه السعوديون أنفسهم عن تاريخهم، وهذا هو ما يهمني، لأن مثل هذه القضية الحساسة يضيق صدرها بأدنى تدخل خارجي، خصوصاً والأمر يتعلق بتأسيس دولة وحروب بين أهل المملكة أنفسهم اضطر الملك المؤسس لخوضها.

يمكن أن أختصر القصة بأن أقول إن الملك عبدالعزيز رحمه الله كان طفرة من الرجال يصعب جداً تكرر مثله، وقد انتصر عسكريا وسياسياً وفكرياً على كل المخالفين، ببساطة، لأنه كان الأفضل، ولأنه كان رجل المستقبل، ولأنه لم يكن في الجزيرة العربية كلها منطقة لا يوجد له فيها أنصار ومريدون. لقد أسس عبدالعزيز في نجد دولة حديثة، برغم أنه لم يقم في نجد دولة بمعنى الدولة الحديثة، منذ عشرات الألوف من السنين، وكبرت هذه الدولة حتى أصبحت المملكة العربية السعودية بحدودها الآن. لقد كان انتصار عبدالعزيز بن عبدالرحمن انتصاراً، لكل أهل المملكة ولو لم ينتصر لكنا الآن في دياجير الفقر والجهل، لأننا كنا سنرفض دخول شركات التنقيب عن البترول بحجة أنهم كفرة لا يجوز دخولهم البلاد، ولا تسل عن الفقر والتخلف حينها، لولا رحمة الله واكتشاف البترول.

لا أزعم أنني قرأت كل ما كتب عن هذه الفترة الشائكة الحساسة من تاريخنا لكنني قرأت الكثير، وكثير مما قرأت يعتوره خطآن عميقان، الأول: خطأ منهجي في الكتابة، فأغلب من دونوا تاريخنا، اعتمدوا على طريقة السرد الكلاسيكية للأحداث، على طريقة المؤرخين المسلمين التي لم تتغير منذ القرن الثالث الهجري، وغاب عنهم أن التاريخ علم رفيع الشأن تأسس وتطور على مر القرون وأصبح يقوم على التحليل لا مجرد السرد، ولا تجد المؤرخ قد مر، ولو مرور الكرام على أصول المنهجية العلمية لكتابة التأريخ، فضلا أن نتحدث عن قراءة محاضرات الفيلسوف الألماني هيغل ( 1770 – 1831 ) في فلسفة التاريخ وتاريخ الشعوب.

العيب الثاني: دخول العامل الشخصي، وتدخل المؤلف بقصور نظرته وامتلاء نفسه بالخصومات التاريخية، إذ تقرأ لبعضهم، فتجد أنه يختزل هذا المجد العظيم للملك عبدالعزيز، بنفس عنصري بغيض، بحيث يصور المسألة وكأن انتصار الملك عبدالعزيز ليس إلا انتصار لحاضرة نجد على باديتها، أو كأنه ليس سوى انتصار لنجد على الحجاز، أو غلبة للوسط على الأطراف، وتجد في تلك المؤلفات، خصومة حقيقية تؤدي بالمؤرخ إلى تضخيم دور أناس لم يكن لهم الدور الكبير، وتقليل دور قبائل عربية كانت عوناً كبيراً للملك عبدالعزيز في إنجازه، بل بلغ الأمر ببعضهم إلى تجاهل قبائل ضخمة وكأنها لم تكن موجودة أصلاً. هنا دعوني أخرج عن الموضوع وأهمس في أذن إخواننا المهتمين بقضية "الأمن الفكري" وأقول إن جناية بعض المؤرخين السعوديين هذه، لها دور نفسي خطير في تأجيج نفوس من التحق بنهج الفئة الضالة وحقدهم على هذا الكيان. في ظل مثل هذه الكتابات الضعيفة رؤية ومنهجاً وأخلاقاً، خرج بين يديّ الكتاب البطل "لسراة الليل هتف الصباح" لعبدالعزيز التويجري رحمه الله، فقد قرأته عندما طبع لأول مرة، فوجدته قد ملأ كتابه بالوثائق التاريخية المهمة التي يحتاجها الباحث، ووجدته يترحم على الجميع ويدعو لهم بالمغفرة، حتى أولئك الذين دخلوا في حرب مباشرة مع الملك المؤسس، في نبل أخلاق يندر وجوده إلا عند رجال مثل عبدالعزيز التويجري، وبرؤيته السياسية التي تتميز بالوعي والعمق، في مقابل أولئك الذين استغلوا موقعهم الكتابي في تدوين التاريخ لإخراج سخائم النفوس والتنفيس عن الأحقاد.