الرغبة في الإصغاء لهاجس الشعر وإدهاشه، وفوح أنفاسه داخل حديقته الساطعة "جازان"، كانت الرافعة الوجدانية والخيط الغامض، الذي يقود خطاك وحواسك اليقظة لتكون في حضرة "السنوسي محمد"، منجم الشعر ولسعة الجمال وخفق الوداعة ومفتاح الأناقة الشعرية الباهرة، دلفت هابطا وهاربا من برد وضباب حورية السروات "أبها" عبر منفذها الجبلي عقبة "ضلع" بمنعرجاتها ومنحنياتها والتي خاطبها السنوسي ذات يوم، وقد أضجره تسرب العمر وضايقته سلاسل السنوات الطوال، دون أن ينتهي مشروع العقبة الذي كان يحول بينه وبين أبها فصرخ متبرما: "طريق جازان أبها.. قلي متى أنت تنهى، ففي النفوس اشتياق.. إليك والعين ولهى، متى أراك رشيقا.. كالقد حسنا وأزهى"، كان رقيقا كأصابع الندى على وسائد العشب، عذبا كهبوب النسائم على أهداب النوارس، كان عاشقا لأبها الحالمة، ومغرما بكث الضباب في صبحها، ورقص الكواكب في أفقها، فقال لها: "تنورتها من وراء السحاب.. وبي وله نحوها وانجذاب، تنام بأحضانها الأمنيات.. كنوم الجداول في حضن غاب، وغنيت أحلى أغاني الهوى.. لأبها وأحلى مناي العذاب، و "أبهاء" من وطني درة.. يفوق المدى قدرها والحساب، ترى الشمس في جوها لوحة.. وتحسبها صورة في كتاب، وتبدو الكواكب في أفقها.. على قاب قوسين من كل باب، كأنك فيها على ربوة.. من النجم أو رفرف من سحاب". في طريقك إلى جازان تتصاهل في داخلك خيول التاريخ، ويهتز في رأسك حجر الذاكرة وضوء الحصى، فتحت هذا التراب تنام أجساد خضراء كقناديل الثريا وضوء الصباحات، وينسكب في مخيالك مطر الغائبين والراحلين، من الشعراء والفقهاء واللغويين والمؤرخين. من هنا، قبل عصور ودهور عبر شاعر بأبي عريش فطاب له العيش فيها فقال: "لم أنس أيام أبي عريشِ.. حيث رياشي قد نما وريشي، حيث انتهت خلاعتي وطيشي"، والآخر حين فاض به الحنين وبرح به الشوق إلى صبيا فقال: "من لصب هاجه نشر الصبا.. لم يزده البين إلا نصبا، وأسير كلما لاح له.. بارق القبلة من "صبيا" صبا".

قيثارة الجنوب الشاعر محمد علي السنوسي كان حاضرا كالبحر الهاجع إلى جوارنا، كان يطل على تلك الأمسيات ويرى ما فعلته أجيال "الوفاء والنبل"، وهي تحيل ليل جازان إلى قلائد وأغاريد وأيقونات، تحكي للناس والحياة عظمة ذلك الشاعر الغائب ومكانته، التي لا تمحوها برازخ النسيان وعتمات الأيام وسعير الراهن المفخخ بالجحود والنكران، ترى كيف استطاع أخطبوط الشعر وأمين عام جائزة السنوسي الشعرية الشاعر محمد إبراهيم يعقوب أن يجمع 99 شاعرا وشاعرة في دوراتها الأربع من المملكة والعالم العربي، ويجعلهم في حالة تماس وتوق ومباهج شعرية، واستدعاء للرموز والرواد عبر فضاءات من الغبطة والنشوة والاصطفاء؟. شكرا له ولمجلس التنمية السياحية في جازان واللجان العاملة.