أصبح من الواضح أن تحرير ميناء ميدي قد تم فعلاً من قبل الجيش الوطني اليمني وقوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، وهذا الميناء المحرر هو أول ميناء لليمن على ساحل البحر الأحمر مما يلي الحدود السعودية اليمنية في مقابل ميناء المُوَسَّم الحدودي. ونقدر أن هذه الخطوة الناجحة بامتياز ستتبعها خطوات مماثلة، خصوصا بعد أن سمعنا بأن النّية معقودة على تحرير باقي الموانئ التهامية الواقعة إلى الجنوب من ميدي، وهي على التوالي من الشمال إلى الجنوب اللُّحَيَّة والصِّليْف، والحُدَيْدَة والمُخَا، حيث إن استرداد هذه الموانئ من أيدي الحوثيين وصالح أمر في غاية الأهمية، وذلك لكونها تمثل بوابات رئيسية على البحر الأحمر لما خلفها من العمق اليمني، وأيضا لكون كل واحد منها يخدم ظهيرا جغرافيا واسعا يمتد إلى الشمال والجنوب من صنعاء العاصمة، بالإضافة إلى أن هذه الموانئ تسهل الوصول إلى عمق اليمن بما في ذلك صعدة وعمران وصنعاء وتعز وذمار وإب وتعز. وأول هذه الموانئ من الشمال -بعد ميناء ميدي الذي سبق طرحه على صفحات هذه الجريدة- ميناء اللُّحَيَّة الواقع على بعد حوالي 120 كيلومترا إلى الشمال من مدينة الحديدة، وهو عبارة عن كتلة من اليابسة داخلة في البحر، ويقابلها من الغرب عدد من الجزر الكبيرة والصغيرة التي يمكن مشاهدة بعضها بالعين المجردة من البر. ويعود عمران اللحيَّة وازدهارها إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري، حينما استوطنها الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي الهاشمي المشهور في المصادر التاريخية التي تناولت سيرته بصاحب اللحية والَمْحمُوْل المعروفة حتى اليوم على وادي مَوْر. وبعد وفاته -رحمه الله- في عام 704هـ سكنها أبناؤه من بعده، واشتهر من ذريته كثيرون فيها بوصفهم فقهاء وعلماء دين، وفيهم كانت زعامة اللحية وما حولها يتوارثونها صاغرا عن كابر حتى عهد ليس بالبعيد حينما تحوّلت زعامتهم لها إلى مشيخة لا تزال فيهم حتى عصر الناس هذا. ومنهم حتى الآن أئمة المسجد المنسوب إلى جدّهم: مسجد الزيلعي، وهو مسجد مقبّب، جميل البناء، ويُظَن أنه من العمارة العثمانية (أحمد الراجحي، العقيليون في المخلاف السليماني وتهامة، ط2، ص 101-108). وتعدّ اللحية من المدن الحصينة حصانة طبيعية، إذ يحيط بها عدد من الآكام المرتفعة عليها اثنتا عشرة قلعة من بناء العثمانيين، وعلى بعد حوالي 9 كيلومترات إلى الشرق منها سلسلة من الجبال المعروفة بجبال الِملْح، وهي امتداد لنظيرتها المعروفة بممالح الصَّليف نسبة إلى ميناء الصليف الواقع إلى الجنوب من اللحية (إبراهيم المقحفي، معجم البلدان والقبائل اليمنية، ج2، ص 1370). ويشتغل أهل اللحيّة بالتجارة، وصيد الأسماك، وقديما كانت اللحيّة إحدى مغاصات اللؤلؤ على ساحل البحر الأحمر، وهي مديرية تابعة لمحافظة الحديدة، ويغلب على اللحيّة نفسها أنها مدينة قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع، إلا أن باقي مديريتها الممتدة في الداخل تشتهر بالخصب، وكثرة المياه كونها مصبا لوادي مَوْر، أحد أكبر أدوية تهامة، ويُعرف بميزاب اليمن الكبير، وهو ينبع من الجبال الشرقية، ويخترق مديرية اللحية في أراضٍ زراعية يبلغ طولها 70 كيلومترا، وعرضها 40 كيلومترا، ومياه هذا الوادي دائمة الجريان، وقد أقيمت عليه سدود تحويلية، وتجود فيه زراعية القطن والتنباك والذرة والدخن والسمسم (إبراهيم المقحفي، معجم البلدان والقبائل اليمنية، ج2، 1371). وكانت اللحية جزءا من المخلاف السليماني أو منطقة جازان حتى سنة 1353هـ حينما ضُمّت -حينذاك- إلى مملكة اليمن بموجب معاهدة الطائف الموقعة بين الملك عبدالعزيز والإمام يحيى حميد الدين، رحمها الله، وتعرضت اللحيَّة في العصور الحديثة لعدة حروب برية، ودكتها الأساطيل الطليانية في أثناء الحرب الإيطالية العثمانية، وكذلك الأساطير الإنجليزية في زمن الحرب العالمية الأولى. وقد زارها الأديب المَهْجَرِي أمين الريحاني أثناء رحلته في بلاد العرب بُعيد الحرب العالمية الأولى فوصفها بقوله: "وصلنا اللحية عند شروق الشمس، فألفيناها كالحديدة حافلة بآثار القنابل الإيطالية والبريطانية، لأنها ضُربت مرات من البحر في الحرب الإيطالية التركية، وفي الحرب العالمية الأولى. إلا أنها لا تزال على شيء من العمران في أبنيتها الكبيرة، وفي أسواقها التي لا تشبه أسواق ميدي بالروائح والأقذار، ولا بالناس وحركة الأشغال، وهي قريبة من البحر، ولا تزال الكياسة التركية بادية في بعض أرجائها، لا سيما في دوائر الحكومة حيث استقبلنا فيها بعض الأفاضل من عسير ومن الحجاز كانوا سابقا في خدمة الدولة... وفيها ثكنة مهجورة، وقلعة متهدمة، وأخربة كثيرة. فقد كانت في آخر الحرب العظمى هدفاً للرصاص والنار من البحر والبر؛ لأن عساكر الإدريسي كانوا مخندقين خارج المدينة. وما عَتَم أن تغلب عليها الأسطول البريطاني، فخرج الترك من المدينة، ودخلت عساكر الإدريسي إليها. وبعد قليل وصل إلى تلك البلاد خبر الهدنة، فأرّخه الإنجليز هكذا 11-11-11، أي أن الخبر وصل إلى اللحية في الساعة الحادية عشرة، من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من سنة 1918، (أمين الريحاني، ملوك العرب، ص 371-72).
ولم يكن ميناء اللحيّة في مثل صلاحية ميناء ميدي، الواقع إلى الشمال منها من حيث استقباله السفن والبواخر الكبيرة، لكونه كثير الصخور والشعاب المرجانية، ومع ذلك، ففي حالة بقائه بأيدي الحوثيين وحليفهم صالح يمكن عند الحاجة إليه أن يعوّضهم عن ميناء ميدي، لكونه أقرب الموانئ بعد ميدي إلى صعدة، الموطن الأصلي للزيدية منذ دخولها إلى اليمن في القرن الثالث الهجري.