أعتقد أن مهمة العراقيين للمصالحة الوطنية أسهل بكثير من أي دولة مماثلة لها سواء في التنوع الطائفي أو في تجربتها السياسية الحديثة. ذلك أن العراق من الدول النادرة التي تمتلك ثروات هائلة لا تتكرر في معظم الكيانات. فإلى جانب النفط، هناك الزراعة "الثروة المائية" وهناك القوى البشرية المتعلمة أو الممتهنة للأعمال الحرفية العالية. قبل كل هذا وذاك العراق يزخر بالتاريخ الحافل بالمنجزات التي كان لها الأثر الأكبر في تاريخ الإنسانية التي يحق لكل عراقي أن يفخر بها. فعلى أرض العراق تمت صياغة أول قوانين الأرض بين البشر على يد حمورابي منذ أكثر من 3800 سنة. وفي العراق وجدت الحضارة البابلية وفوق أرضها ولد الفن والإبداع في البناء والموسيقى والأدب. هل ننسى بوابة عشتار أو شارع الموكب في بابل التي تعتبر منجزات إنسانية رفيعة من حيث الجمال والكمال وإتقان العمل مما جعلها نقطة جذب في متحف برلين حيث تقبع هناك منذ بداية العصر العثماني. أم ننسى روايات ألف ليلة وليلة وحكايات علي بابا وشهرزاد والسندباد وعلاء الدين. وماذا عن مدينة بني العباس التي أسهمت في انتشار المسلمين إلى أقصى بقاع الأرض واحتضانها للمتنبي والفرزدق انتهاء بالسياب والجواهري والوردي وغيرهم من أعلام الفكر والأدب العربي. بجانب النفط والزراعة وحديثنا مازال عن إمكانات العراق فإن السياحة تضع هذا البلد في طلائع دول العالم من حيث عدد السواح ومعدلات إنفاقهم. فالعراق تزخر بالمزارات الدينية والأضرحة ومن هنا فإن المعتقدين بضرورة زيارة هذه الأماكن من الطوائف والمذاهب الإسلامية المتعددة هم بالملايين ومداخيلهم المالية على الاقتصاد العراقي لا تقدر بثمن. العراق ربما الدولة الوحيدة في الوطن العربي التي لديها عشر عطل رسمية في السنة. والعراق هي الحاضنة لمهرجان بابل الدولي ولو فتح باب السياحة الأجنبية تزامناً مع استتباب الأمن لبلغ عدد السواح في العراق أكثر من نظيره في فرنسا أو إسبانيا. كل هذه الفعاليات تؤصل لبناء قاعدة اقتصادية هامة في اقتصاد متنوع المداخيل. اقتصاد كهذا لا يخشى عليه من البطالة أو الكساد تحت أي ظروف عالمية كالتي نمر بها هذه السنوات.
ما أريد الوصول إليه هو أن العراق جوهرة ثمينة ودرة رائعة تحتاج فقط إلى من يصقلها ويحافظ عليها. كيف ينتهي الأمر بأبناء الرافدين إلى التناحر والتنافس على المناصب وإتاحة الفرصة للمجرمين القتلة لسفك الدماء ولديهم كل هذه الإمكانات الهائلة؟
دعوة خادم الحرمين الشريفين للرئيس العراقي ورؤساء الأحزاب العراقية الفائزة في الانتخابات النيابية إلى الانعقاد في الرياض بعد حج هذا العام هي دعوة القائد العربي المسلم الحريص على لم الشمل وحقن الدماء وبناء دولة الغد في العراق الشقيق. المملكة اعتادت أن لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى إلا عندما يصل القوم إلى الطرق المسدودة. فعلتها المملكة من قبل في لبنان وأصبح اتفاق الطائف شريان الحياة النابض في لبنان إلى هذا اليوم. هل تذكرون المادة الثانية من اتفاق الطائف الذي تم التوصل اليه في العام 1989 برعاية أبوية سعودية؟ تقول المادة: "بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية والإعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر.. الخ"؟ من كان يتخيل أن يحدث ذلك في الثمانينات؟ لكنه حدث.
العراق لا يحتاج إلى مثل هذه المادة لأن لديه دستورا جديدا للتو تم استفتاء الشعب عليه ولم ينسه أحد. ولا يحتاج إلى تصميم هيكل حكومي جديد فلديهم ذلك. العراق فقط يحتاج إلى تغليب بعد النظر وتصفية النفوس ووضع مصلحة العراق أولاً وليس إيران. أعتقد أن مشكلة العراق اليوم إضافة إلى تدخل إيران الفاضح هي حداثة التجربة الديموقراطية بعد عقود من البطش والظلم والاستبداد الذي تفنن به حزب البعث الهالك.
ما يشفع لدولتنا في علاقاتها مع الأشقاء في كل مكان والذي يؤكده تاريخها النقي الناصع البياض منذ عهد المؤسس رحمه الله أنها دولة محفوفة بالبركة والخير. نواياها صادقة وواضحة وأجندتها لا تذهب للعملاء لتندس في الأدراج السرية. هذا ما يمنح المملكة الثقة لدى الغير وهذا ما سيدفع بحول الله كل الأطراف المتناحرة هناك إلى الجلوس في الرياض وتحكيم المنطق والمصالح العليا للخروج بالحلول المأمولة. نعم لدينا مصالح مع استقرار العراق ولدينا خسائر مع تشتت العراق وهذه لا ينكرها إلا جاهل لكننا في المملكة لا نرى أن الحلول الناجعة والطويلة الأمد تلك التي تأتي من فرض التغيير أو من اللجوء إلى الحلول التي قد تنتهي بالإساءة لحزب على آخر كما تمارسه إيران بكل بجاحة وقلة حياء. لذلك فموقف المملكة أثناء انعقاد مثل هذا المؤتمر المبارك هو موقف الراعي غير المنحاز لأي طرف. هو موقف الأب العادل بين أبنائه وموقف الملك الإنسان الذي تأذى وتأثر كثيراً بسبب تناحر الإخوة واقتتالهم. لن يكون أبداً موقف الشامت ولا المحرض بل موقف من يملك الرؤية البعيدة البناءة ويقف داعماً لها. أتمنى أن يجد الأشقاء في الرياض الهدوء اللازم لإعادة ترتيب الأولويات وأن يصب جل اهتمامهم نحو بناء "بابل" العراق الآمن المطمئن. هذا ما أتمناه على الأقل وهي أمنية تتبعها أمانٍ. فزيارة العراق والاطلاع على تاريخها أصبح بالنسبة لأجيال اليوم من الشعوب العربية على أهميته وضرورته غاية مستحيلة ومحفوفة بكافة أنواع المخاطر.