نشأ الفن منذ أن أدرك الإنسان نفسه ووجوده، ذلك أن الإنسان لكونه كائنا يفيض بالمشاعر، والأحاسيس، والمعاني، والتخيلات والأحلام، والآمال فقد كان طبيعيا أن يجسد كل ذلك في أعمال تأتي على شكل صور، أو رسومات، أو خطوط، أو تصاميم أو تمثيلات متنوعة وربما تأتي على شكل ألحان، وأهازيج تحكي ما يكتنزه الإنسان في داخله من عوالم مختلفة إلى حد التباين والمفارقة. الفن موجود طالما كان الإنسان موجودا. هذه معادلة حاسمة ونهائية لا يمكن الاختلاف عليها. على أن الولوج إلى عالم الفن لدى المجتمعات والنظر إليها من خلاله يمكن أن يعطي فهما لتصوراتها، ورؤاها، واهتماماتها، فضلا عن مقدار ذائقتها الفنية التي تعكس تحضرها، أو تقدمها من عدمه. من هنا يبدو الفن معيارا ومقياسا لحالة المجتمع ولواقعه.
في مجتمعنا وخلال العقدين الماضيين حظيت الأغنية المحلية باهتمام واسع من قبل فئات عريضة من المجتمع، إذ بدت ركنا ثابتا ومحوريا للفن في البلاد، وتم ترميز عدد من الشخصيات الغنائية في المجتمع أمثال الراحل طلال مداح، ومحمد عبده، وعبادي الجوهر.. وغيرهم. وبالرغم من أن القراءة السائدة في مجتمعنا للدين الإسلامي -الفكر السلفي تحديدا- تُحرّم هذا النوع من الفنون، وتجرّمه، وتعتبره مؤشرا على الفسوق والانحطاط، إلا أن الغطاء الرسمي أسهم بدور كبير في تخفيف غلواء هذا التجريم والتثريب. يتمثل هذا الغطاء في كون كثير من الأغاني المشهورة كانت كلماتها قصائد لبعض الأمراء والشخصيات الرسمية الاعتبارية مثل: الأمير خالد الفيصل، والأمير بدر بن عبدالمحسن وغيرهما، علاوة على أن هذه الشخصيات الغنائية تمت استضافتها بصورة رسمية في عدد من المهرجانات، والمسارح في البلاد، فمسرح أبها في المفتاحة كان إلى وقت قريب تصدح أروقته وزواياه بأغاني هؤلاء الفنانين.
وبصرف النظر عن الغطاء الرسمي الممنوح لهؤلاء الفنانين، إلا أن المؤكد أن رأس المال الرمزي الذي امتلكه هؤلاء الفنانون في وجدان المجتمع كان عملا اجتماعيا وليس سلطويا أو رسميا، وهو ناتج بالدرجة الأولى عن مزاج اجتماعي عارم يرومُ فنا إنسانيا مُحمّلا بالحب، والسلام، والجمال. وربما يكون مردّ هذا المزاج إلى أن المجتمع آنذاك كانت لديه أحلامه الرومانسية، وآماله، ومستقبله الواعد. على أن هذا المزاج، أو تلك الذائقة الفنية الرفيعة لم تستمر، إذ شهدت الساحة الفنية في السنين الماضية موجة عاتية من ما يسمى بـ"الشيلات"، وكان قدومها يأتي على حساب الأغنية المحلية، حيث انحسرت هذه الأخيرة بشكل يبعث على الدهشة والتأمل. يأتي هذا الانحسار في مقابل هذه الموجة مواكبا لتحولات كبيرة تشهدها الجغرافيا السياسية في المشرق العربي، وتفجر حوادث إرهابية تهدد مجتمعاته برمتها. ولأن المجتمع بات قلقا وغير مطمئن، يستبطن هذا القلق انعداما أو على الأقل رؤية ضبابية ووجلة تجاه المستقبل، لذلك فقد بدأ يعود قسرا إلى مكوناته الاجتماعية الأولى. من هنا كانت الانطلاقة إلى الخلف والعودة إلى القبيلة التي يراها الفرد الوحدة الأساسية والصلبة في المجتمع، باعتبارها الضامن إن جار التاريخ أو تبدل الواقع. لم تكن تلك العودة إلى القبيلة مجرّدة، بل تم تطويعها بصورة لا واعية على استحضار كل حمولاتها الثقافية، ورؤاها، وتصوراتها، وأجنداتها الضيقة. وهكذا، ولكون الفرد أمسى بهذه الكيفية؛ فقد بات المجتمع يستمزج فنّاً يعبّر عن كينونته، ومزاجه المتحول. فن ينزع ناحية القتال، ويحب الحرب، ويتحدث عن صور وخصائص البداوة وشهامتها، ومناخاتها، وغزوها، وشدتها في اتخاذ المواقف! وعلى إثر ذلك فلم يكن ثمة من فنّ يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه مثل ما يسمى بـ"الشيلات" الحافلة بالقوة، والخيلاء، والرغبة في الحرب والانتصار. ولئن كان هذا الفن بهذه الخصائص ينسجم مع طبيعة المرحلة إلا أن الإشكال أنه يقود إلى تجريف الوعي وتسطيحه، ونفخه بالغرور، والصلف، والجهل، والنرجسية، والإشكال الأكبر إذا تم زرعه في بيئة غير مناسبة، وتغطيته رسميا، وهذا ما حدث في بعض المناطق التي كانت من الناحية التاريخية تجسّد بيئة حضرية جبلية لها تراثها المغاير، وغير المنسجم مطلقا مع مثل هذا النوع من الفنون!