منذ صدر وعد بلفور المشؤوم عام 1917، بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في خط بياني متصاعد. ومع اتساع دائرة الهجرة بدأ الصراع يتصاعد، بين السكان الأصليين أصحاب الأرض، وبين القادمين الجدد، لتنتقل لاحقا إلى صدامات وثورات ومواجهات دموية، بين المستوطنين الصهاينة وأصحاب الحق الشرعيين. وبسبب من الخلل الفاضح في توازن القوة، بين أصحاب الأرض، وبين المستوطنين الجدد، وأيضا، نتيجة لغياب النظام العربي، القوي والموحد، والتواطؤ الدولي مع المشروع الصهيوني، انتهت انتفاضة الفلسطينيين في الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم، إلى نتائج بائسة.
وفي 1948، حقق الصهاينة مشروعهم في إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، بينهما بقي الحلم الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية مستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني؛ مغيبا حتى يومنا هذا.
يعود تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى 1964، حين عقد مؤتمر قمة عربي لمناقشة التهديدات الصهيونية، بتحويل مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب. وقد اتخذت القمة العربية، آنفة الذكر ثلاثة قرارات تاريخية، الأول بينها تشكيل كيان سياسي فلسطيني يعبر عن إرادة الفلسطينيين، وتوقهم في الحرية والتحرير، ويمثلهم في المحافل الدولية. وقد منح هذا الكيان مسمى منظمة التحرير الفلسطينية. والقرار الثاني، كان تشكيل جيش تحرير فلسطيني من الفلسطينيين المقيمين في المخيمات. ويتبع هذا الجيش الجيوش العربية، ويعتبر جزءا منها. بمعنى أن فرع جيش التحرير بالأردن يكون تابعا للجيش الأردني، والفرع في مصر يكون تابعا للجيش المصري، وهكذا. أما القرار التاريخي الثالث، الذي صدر عن القمة العربية الأولى، فهو تشكيل قوة عربية مشتركة، تمنع إسرائيل بالقوة العسكرية من تحويل مياه النهر وتكون في المستقبل نواة الجيش العربي في تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.
لكن حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" استبقت تلك العمليات بعمليات مسلحة، انطلقت في مطالع 1965، معلنة بداية اشتعال الثورة الفلسطينية المعاصرة. لكن الدور الفعلي للمقاومة الفلسطينية لم يتحقق إلا بعد نكسة الخامس من يونيو 1967، حين احتلت إسرائيل من مصر شبه جزيرة سيناء ومن الأردن، القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، ومن سورية مرتفعات الجولان. لقد ظلت المقاومة الفلسطينية في حينه، الشعلة الوحيدة، التي أبقت الأمل مفتوحا بتحرير فلسطين.
لكن المقاومة الفلسطينية اصطدمت لاحقا بالجيوش العربية، حين بدأت في ممارسة دور الدولة داخل الدولة، فجرى ترحيل عمودها الفقري من الأردن إلى لبنان، ولترحل لاحقا، بعد الغزو الصهيوني لبيروت في صيف 1982. وقد دفعها ذلك للتحول إلى الخيار السياسي، كبديل عن المقاومة المسلحة. ولم يكن لهذا الخيار أن يكون فاعلا من غير إسناد شعبي فلسطيني.
وهكذا اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في ظل الاحتلال الصهيوني، في النصف الثاني، من ثمانينات القرن الماضي، بقيادة أطفال الحجارة. وكانت انطلاقتها الأولى من مخيم بلاطة في قطاع غزة، لتنتقل سريعا كالهشيم إلى مناطق الضفة الغربية، وإلى الأراضي الفلسطينية، التي احتلها الصهاينة عام 1948، وأقاموا عليها كيانهم الغاصب.
كانت انتفاضة أطفال الحجارة -بحق- من أنصع بطولات الشعب الفلسطيني عبر كفاحه الطويل. فالجيش الإسرائيلي، الذي هزم 3 جيوش عربية، في 6 أيام، وقف عاجزا أمام أطفال الحجارة. وقد دفعت هذه الحقيقة برئيس الأركان الصهيوني، ورئيس الحكومة الإسرائيلية لاحقا، إسحق رابين إلى القول بأنه يشعر بالعار، لفشله في قمع أطفال فلسطين، وإطفاء جذوة انتفاضتهم، وهو الرجل الذي ألحق الهزائم المتكررة في عدة مواجهات مع الجيوش العربية.
وقفت حركة فتح وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بزعامة الراحل ياسر عرفات، خلف انتفاضة أطفال الحجارة، وقدمت لها مختلف أشكال الدعم. وكانت الانتفاضة العنوان الأبرز في بيان الاستقلال الذي أعلنته منظمة التحرير الفلسطينية في اجتماع الجزائر، في نوفمبر 1988.
وكان من نتائج الانتفاضة الفلسطينية شعور عرفات باستعادة توازن القوة، والاعتماد على الحركة الشعبية بديلا عن الكفاح المسلح. وقد دفعه ذلك إلى الإعلان عن التخلي نهائيا عن المواجهة المسلحة ضد الكيان الصهيوني، مما دفع إدارة الرئيس الأميركي ريجان، لفتح قنوات الاتصال رسميا مع منظمة التحرير. وكانت تلك بداية الطريق لعقد مؤتمر مدريد للسلام بالشرق الأوسط في مطالع التسعينات من القرن المنصرم، ولتوقيع اتفاقية أوسلو 1993، وقيام السلطة الفلسطينية في رام الله، وقطاع غزة.
الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في التاريخ الفلسطيني المعاصر، هي انتفاضة الأقصى الشريف. وحدثت عام 2002، إثر تدنيس أرييل شارون للأقصى الشريف. ولكنها في حقيقتها تعبير عن الغضب الفلسطيني من الغطرسة الصهيونية، وانقلاب الكيان الغاصب على نصوص اتفاقية أوسلو التي قضت بانتهاء المرحلة الانتقالية، وقيام الدولة الفلسطينية بعد 5 أعوام من توقيع الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي في أوسلو.
وفي هذه الانتفاضة، كانت قيادة فتح واضحة، بزعامة المناضل السجين، مروان البرغوثي. وما كان لهذه الانتفاضة الفلسطينية أن تستمر ويكتب لها النجاح، في ظل التعنت الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني، الذي انتهى بقيام سلطتين على أرض فلسطين التي جرى احتلالها من قبل الصهاينة في عدوانهم عام 1967.
الانتفاضة الثالثة، انتفاضة سكاكين المطبخ، لا تزال في بداياتها، ولم تتمخض حتى الآن عن انبثاق قيادة لها. ورغم التضحيات الجسورة، فإنها لن يقدّر لها أن تحقق أهدافها ما لم تتفق القيادات الفلسطينية في رام الله والضفة على دعمها. ومثل هذا الاتفاق سيكون رهنا بصياغة إستراتيجية كفاحية موحدة بين قيادتي فتح وحماس، وذلك ما لا يلوح في الأفق حتى الآن.
في كل الانتفاضات الفلسطينية، التي اشتعلت حتى الآن، تبدو الوحدة الفلسطينية هي سر النصر، وهذه الوحدة لا تزال بعيدة المنال، فهل سترتقي القيادات الفلسطينية إلى مستوى تضحيات شعبها.. سؤال مركزي وملح، وبالجواب عنه، يتحدد مستقبل النضال الفلسطيني.