سبق الحديث عن أثر تعدد المرجعيات الفكرية والأخلاقية على مواقف الإنسان من الآخرين. كانت الأطروحة الأساسية أن الإنسان متعدد المرجعيات لديه فرصة أكبر لرؤية الأمور من زوايا مختلفة، وبالتالي لديه قدرة أكبر على تفهم الاختلاف حول القضايا في مجتمعه. على سبيل المثال الإنسان الذي يحتفظ بمرجعية أخلاق الضيافة في ضميره سيجد أن هذه المرجعية ستخفف كثيرا من حدة انحيازاته المذهبية والعرقية. بمعنى أن مرجعية الضيافة لديه ستجعله، في مواقف معينة، يستقبل في بيته ويكرم أشخاصا يختلف معهم جذريا في تصوراته السياسية والمذهبية. الإنسان الذي يحترم قيم الضيافة لن يرد الضيف من الدخول إلى بيته ولن يشترط على هذا الضيف اشتراطات مسبقة ليعطيه حق الضيافة. في المقابل الشخص الذي يعتقد بأن مواقفه المذهبية يجب أن تحكم كل تصرفاته الأخرى يحشر نفسه في خط واحد ضيق لا مجال فيه إلا لمن يشبهه. التفاوض حالة يمكن توضح لنا أكثر أثر أحادية الفكر. في الخلافات بين الأفراد أو بين الجماعات، إحدى طرق التفاوض لحل الاختلافات هي البحث عن طرق أخرى لذهن الطرف الآخر غير الطريق التي وصلت إلى طريق مسدودة. مثلا، إذا كانت الحسبة الاقتصادية لم تنجح مع الطرف الآخر فلا مانع من محاولة الحسبة الأخلاقية أو الحسبة الاجتماعية. إذا كان هذا الطرف يعطي تقديرا متنوعا للقضايا في حساباته فإن هناك دائما فرصة للوصول معه إلى طريق مشتركة. في المقابل فإن الإنسان أحادي المرجعية يحد كثيرا من فرص التفاوض معه، لأنه لا يرى إلا طريقا واحدة لا ثاني لها.

الآن سأحاول نقل علاقة أحادية الفكر بالعنف إلى واحد من المشاهد الفلسفية ثراء وإدهاشا: الحوارات الأفلاطونية، هذه الحوارات عبارة عن مشاهد لنقاشات طويلة يقودها سقراط ويناقش فيها عددا من الشخصيات المهمة في التاريخ اليوناني. هناك جدل واسع حول إمكانية فصل سقراط عن أفلاطون في هذه الحوارات، لكن ما يهمنا هو محاولة تحليل هذه الحوارات، الجمهورية ومينو على وجه الدقة، لفحص علاقة الحوار بالعنف.

بشكل عام يمكن تقسيم البناء الداخلي للحوارات الأفلاطونية لقسمين أساسيين: القسم التفكيكي الذي ينتهي عادة باكتشاف زيف الإجابات الشائعة، والقسم البنائي الذي يطرح فيه سقراط جوابه البديل. الملاحظة المتعلقة بموضوعنا هنا أن في الجزء الأول هناك حضور مؤثر إلى حد كبير للأصوات الأخرى مع أفلاطون. مثلا في الجزء الأول من محاورة مينو كان مينو يشارك في النقاش ويطرح وجهات نظر مختلفة. نجد ذلك في الجمهورية كذلك. في الجزء التفكيكي هنا حركة من اتجاهات مختلفة وإثارة ومشهد متعدد الأبعاد. هناك أصوات مختلفة والحركة غالبا تكون في اتجاه فتح آفاق أوسع للحوار. في هذا الجزء يظهر سقراط كمحرر للفكر ومقاوم للأفكار المسيطرة بقوة على أفكار الناس. في هذا الجزء يمكننا الحديث فعلا عن حوار متنوع وجدل حقيقي وحضور للأصوات المختلفة. بعد وصول الجزء التفكيكي إلى هدفه وهو إثبات خلل الأفكار المطروحة، وظهور الارتباك والتشويش على معتنقيها ينتقل الحوار إلى مرحلة البناء. عادة ما تعتبر هذه المرحلة هي المرحلة الأفلاطونية التي يطرح فيها أفلاطون رؤاه الميتافيزيقية والسياسية الخاصة. هذا الجزء يختلف عن الجزء الأول كثيرا، فحضور الآخرين في الحوار يصبح حضورا شكليا بدون أثر. أغلب المداخلات من الآخرين في هذا الجزء مداخلات موافقة وتعزيز لما يقوله أفلاطون. هنا يتلاشى الاختلاف ومعه يبدأ العنف. العنف هنا يظهر في أكثر من مستوى، أولا: غياب الاختلاف والصوت الآخر، وثانيا: يترافق مع غياب الآخر بناء أطروحات فكرية عنيفة تجاه الاختلاف وتجاه الآخرين. الجمهورية الأفلاطونية مثال واضح على هذا العنف. في هذا الجزء يرسم أفلاطون بناء سياسيا هائلا للمجتمع والدولة يقوم على تقسيم حاد للطبقات وعلى تصورات وثوقية عن الطبيعة البشرية. اختفاء الأصوات الأخرى في الحوار يترافق معه اختفاء لحضور المخالفين في الجمهورية الفاضلة. طرد أفلاطون للشعراء من الجمهورية مشهد معبّر بوضوح هنا. الشعراء بحسب أفلاطون يشوشون على "الحقيقة" ويغرقون الناس في صور عاطفية لا تتجاوز ظلال الأشياء. الشعراء يفسدون تفكير الناس، ولذا لا بد من استبعادهم.

في الجزء الثاني من الحوارات الأفلاطونية يتحول (سقراط/ أفلاطون) لكائن أحادي البعد. المرجعية التي تحكم فكرة أحادية تنبع من تصور واحد للخير والحق والجمال. هذه المرجعية الأحادية بالضرورة عنيفة ضد الآخر المختلف، وعنيفة ضد التنوع والاختلاف في الواقع الإنساني. أفلاطون يدرك حجم التغيير المطلوب والتضحيات الكبيرة التي لا بد من دفعها لتحقيق مشروعه المثالي. المرجعيات الأحادية تعمل بقوة لتبرير العنف الضروري لتحقيقها. هذا التبرير يأخذ طرقا مختلفة من أهمها أن العنف "ضروري" أي أنه الطريق الوحيدة لحل إشكالات الواقع. في المقابل يعرف متعددو الأبعاد أن الطرق بالضرورة متعددة، وأن العنف ليس بالضرورة الحل الوحيد والنهائي.

الأمثلة الاجتماعية التي عرضناها عن تسامح متعددي المرجعيات والأمثلة الفلسفية من الحوارات الأفلاطونية تحيلنا إلى أسئلة الاختلاف والعنف. أحد هذه الأسئلة المهمة هو: كيف يمكن للفرد الجمع بين مرجعيات متعددة في الوقت ذاته؟ ألا يعني هذا الازدواجية والتناقض؟ ألا يحتاج الإنسان العاقل إلى نظام متسق يجعل لسلوكه وخياراته معاني واضحة غير متناقضة؟ ما الفرق بين المنافق والكذاب والإنسان متعدد المرجعيات؟