يقوم بعض الرؤساء والمديرين في بعض الجهات الحكومية، بعمل وكالة شرعية لمرؤوسين يعملون لديهم في إداراتهم التي يشرفون عليها، وذلك بهدف متابعة تحصيل الديون أو إيجارات العقارات أو المضاربة في سوق الأسهم والسندات، بالإضافة إلى رفع الشكاوى ومقاضاة الغير، وليس هذا وحسب، بل ربما تكون هذه الوكالة من أجل إدارة شركات يملكها الرئيس الإداري تكون مسجلة باسم الزوجة أو الأبناء!

في البيروقراطية عموماً، يستسيغ الموظفون إرسال المرؤوسين في المستويات الإدارية الدنيا إلى الجهات الخدمية مثل مكاتب العمل لاستخراج تأشيرات الاستقدام أو الجوازات لتجديد جوازات السفر الخاصة بالرئيس أو المدير الإداري، وبطبيعة الحال هناك بعض الرؤساء البيروقراطيين يختارون لهم سكرتيراً خاصاً لمهام محددة كثيراً، منها يدخل في الإطار الشخصي، وبالتالي فإن البيروقراطية تستسيغ أيضاً عمل الوكالات العامة من أجل إدارة الأملاك الخاصة بالرئيس الإداري.

والوكيل البيروقراطي يكون من أولئك الذين يثق فيهم الرئيس الإداري تمام الثقة بصرف النظر عن المؤهل أو الكفاءة أو الخبرة والتجربة أو القدرة الإدارية سوى القدرة الشخصية على تصريف كثير من الأمور التي يمكن أن يعتمد الرئيس عليه في أدائها، والقيام ببعض الخدمات التي يدخل بعضها في الإطار الشخصي لرئيسه، وبالتالي فإن المهام الرئيسية والحقيقية للوكيل لا تخرج عن مهام الفراش ولكن على مستوى أعلى نسبياً.

وعلى هذا الأساس، فإن سلطة الوكيل الشرعي للرئيس تتجاوز سلطة كثير من مديري الإدارات الرئيسية في الجهة الحكومية بسبب احتكاكه المباشر مع الرئيس البيروقراطي واطلاعه على كثير من المعلومات المتعلقة بالعمل، وتلك التي تقع خارج إطار العمل أيضاً، ونتيجةً لذلك يصبح الرئيس البيروقراطي أسيراً لهذه الظروف، ويعطي لوكيله تقديراً خاصاً، ويعطيه من الدعم كل ما يمكنه، فيصبح هذا الوكيل مركز قوة كبيرة لها ثقلها في الجهة الحكومية.

وفي الحالات التي تكون فيها شخصية الرئيس البيروقراطي ضعيفة، فإن وكيله الشرعي يصبح الرئيس الإداري الفعلي في الجهة الحكومية، ولهذا فقد يلجأ إلى هذا الوكيل رؤساء الإدارات الرئيسية في الجهة، ويمنحونه الاحترام الذي يتساوى مع الاحترام والتقدير للرئيس البيروقراطي!

وفي بعض الجهات الحكومية يفوض الرئيس قدراً كبيراً من الصلاحيات الإدارية إلى وكيله الشرعي، بحيث ينفذ الكثير من رغباته الشخصية ويكون مشجباً لكل رغباته وما تشوب هذه الرغبات من شوائب، فحينما يرفض الموظفون تنفيذ بعض تلك الرغبات والتي تخالف الأنظمة واللوائح، ينبري الوكيل الشرعي دون الرئيس البيروقراطي بمحاولة التصدي لأولئك الموظفين ويتخذ من الإجراءات ما تتيحه له صلاحياته الوظيفية للنيل والانتقام منهم، مما يترتب على ذلك تعطيل العمل والإضرار بمصالح الجهة.

أما فيما يتعلق بالوكالة، فيتم استغلالها أسوأ استغلال، ففي الظاهر يعتقد بأنها وكالة شخصية فردية، وفي حقيقتها وكالة حكومية رسمية، حيث يتم استغلال المنصب الوظيفي واسم الجهة الحكومية في تمرير المعاملات الشخصية للرئيس البيروقراطي من استخراج صكوك وتحصيل ديون أو إيجارات وعربدة عقارية أو تحويل أرباح أو إدارة شركات ومؤسسات أو شكاوى ورفع دعاوى قضائية، فتمر المعاملات بسرعة مذهلة، وسرعان ما تنتهي كل الإجراءات الروتينية المعقدة من ضبط وتسجيل وتدقيق، وربما كانت هناك مصالح ومنافع متبادلة بين الوكلاء والموظفين في الجهات الحكومية الأخرى، مثل الإعفاء من الغرامات أو الرسوم أو توظيف الأقارب والأبناء أو الحصول على التراخيص أو الحصول على أراض ومواقع مهمة بالشراء والتأجير.

أما في حال تعقد المعاملات وعدم تمريرها، فيتم اللجوء إلى التعمد في تفسير الأنظمة واللوائح على غير وجهها الصحيح أو في غير موضعها بقصد الإضرار بالجهة الحكومية الأخرى، أو الامتناع أو تعطيل مصالح ذلك الموظف الذي عطل مصالح الرئيس البيروقراطي في تلك الجهة.

للأسف الشديد هذا هو السائد فيما يسمى بالعربدة والفساد الإداري، والغريب في هذا الموضوع، أن مثل تلك الممارسات تكاد تكون ممارسات عادية وطبيعية في الثقافة البيروقراطية، وكأن توكيل المرؤوسين حق مكتسب للرئيس البيروقراطي يعمل بها كيفما شاء وفقاً لمصالحه ورغباته الشخصية!

بينما نجد أنظمة الخدمة المدنية ولوائحها تحظر على الموظف الحكومي استغلال منصبه أو تسهيل الحصول على المنافع أو إساءة سمعة الوظيفة أو مصلحة في مشروع تجاري أو مصلحة أحد من أقاربه، أو أخذ الهدايا أو الجمع بين وظيفتين وغير ذلك، إذ يتعرض الموظف المخالف لذلك للفصل من الوظيفة بالإضافة إلى العقوبة الجنائية.

وقد قضت التعليمات في المملكة بمعاقبة الموظف المخالف لتلك الأنظمة بالسجن "مدة لا تزيد عن 10 سنوات أو بغرامة لا تزيد عن 20 ألف ريال كل موظف ثبت ارتكابه لإحدى الجرائم الآتية:

• استغلال نفوذ الوظيفة لمصلحة شخصية في داخل الدائرة أو خارجها.

• التحكم في أفراد الرعية أو الافتئات على حق من حقوقهم الشخصية بصورة من الصور أو تكليفهم بما لا يجب عليهم نظاماً.. إساءة المعاملة أو الإكراه باسم الوظيفة.

• سوء الاستعمال الإداري كالعبث بالأنظمة والأوامر والتعليمات..، واستغلال النفوذ أياً كان نوعه في تفسير الأوامر وتنفيذها لمصلحة شخصية".

ونظراً إلى صدور تلك العقوبات الزاجرة والرادعة لعقود طويلة، وانزوائها في خبايا الصحف الرسمية، وجهل الشريحة الأكبر من الموظفين بها، فإني أرى ضرورة تعميمها على جميع موظفي الجهات الحكومية ليكونوا على علم بتلك المخالفات وعقوباتها وجعلها من أولويات ثقافتهم العملية، فالوقاية خير من العلاج، فاستغلال النفوذ عن طريق الوكالات العامة تكاد تكون ظاهرة في بعض الجهات الحكومية.