منذ أن غادر الكابتن أحمد مطر (رحمه الله) موقعه كمدير عام للخطوط السعودية، وهذه الخطوط كما يقال (من جرف لدحديره) فهو كان طيارا مدنيا مؤهلا وتدرج داخل الخطوط حتى وصل إلى سدة المسؤولية، وكان محاطا بكبار موظفي (السعودية)، سواء كانوا طيارين سابقين أو إداريين عجنتهم تجربتهم الطويلة فيها، لكن بعد حقبة مطر، تعاقب على إدارة الخطوط ثلاثة مديرين حتى الآن من خارجها، مع أن بستان الخطوط يملك عشرات إن لم يكن مئات الأشجار السامقة المثمرة المكتنزة عطاء وخبرة.

ثم تردى حال هذه المؤسسة العريقة العملاقة، إذ تعاقب وتكرس الإحباط بين العاملين فيها، سواء كانوا طيارين أو فنيين أو إداريين، وهذا الإحباط -كفانا الله شره- أعظم عائق للإبداع والإخلاص، إذ لا يعقل أن يأتي أي مدير مهما عظم شأنه ومؤهله وكفاءته، ليحاسب طيارا أو فنيا أو موظفا متخصصا خبيرا في شؤون وشجون الطيران وهو لا يعرف فيه إلا كما يعرف (محاكيكم) هنا، فأنا لا أعرف إلا أن أحجز بالهاتف أو بواسطة، ثم أركب الطائرة التي تنقلني من بلد إلى بلد، ويصعب بل يستحيل على مثلي أن يستوعب أو يفهم مهام ذلك الطابور الذي يقوم بالعمل منذ أن حجزت إلى أن حصلت على (البوردنق) إلى الباص وما يحيطه من خدمات أرضية، وصولا إلى مقعدي في الطائرة التي تمت صيانتها والتأكد من سلامتها، والتي إيذانا بسلامة كل شيء يحيينا قبل إقلاعها الكابتن السعودي (فلان) نيابة عن الطاقم، وليس لدي شك في أن معلومات غالبية الناس لا تتعدى معلوماتي مع تفاوت بسيط، أما أسرار الصنعة وخباياها فيستحيل أن يعرفها غير أولئك الذين (تمرمطوا) في كل الدهاليز وخبروها، كما كان عليه حال (الكابتن أحمد مطر).

لقد قلت وأقول دائما (فتش عن الإدارة) عند أي نجاح أو فشل، ومع إيماني التام بضرورة التخصص في الإدارة أو الخبرة المتدرجة فيها، إلا أن هناك تخصصات واضحة لجهات كثيرة لا يصح أن يقودها من لا يعرف خباياها، فمثلا لا أرى مانعا أن يكون مدير الجامعة أو الوزير من أي تخصص، فالمهم أن يكون كفاءة قيادية، لكن ليس معقولا ولا مقبولا أن يعين دكتورا في الشريعة أو الهندسة عميدا لكلية الطب، ومن غير المنطقي أن ينقل مدير عام بنك ضخم ناجح ليكون وزيرا للشؤون الإسلامية، وعلى هذا يمكن القياس، وعليه يمكن أن نعرف مأساة الخطوط السعودية، فهذه الجهة تحتاج إلى قيادات إدارية فنية متخصصة أو خبيرة في مجالها، إذ لا يصح أن تبقى هذه الجهة العملاقة ميدانا لتجريب القيادات من خارجها، فمهما كانت الكفاءات الإدارية من خارج تخصص الخطوط، فإن تلك الكفاءات ستبدأ في تعلم (الحلاقة) في رؤوس العاملين فيها، والمستفيدين من خدماتها، وهذا التعلم يحتاج سنين طويلة جدا، كما أنه سيفضي إلى اختلالات ضخمة جدا، إن لم تكن كارثية، وهذا بالضبط هو حال الخطوط السعودية منذ عقود وحتى الآن، ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليطلع على الوضع المتردي فيها، إذ إن حال المطارات والطائرات وخسائرهما مع سوء الخدمات يغني عن البحث والتنقيب، وهذا ليس طعنا -معاذ الله- في كفاءة وإخلاص ووطنية قيادات الخطوط الذين تعاقبوا عليها حتى الآن، لكن فقط أنهم وضعوا في غير الميدان الذي يستطيعون الإبداع فيه، بل زُج بهم داخل متاهات لا يدرون من أين بدأت وإلى أين تنتهي، وكيف يلمون بمعطفاتها ودهاليزها المعقدة، فيبدؤون في التجريب والتخبط وتكون النتيجة الطبيعية، بل ربما يتم نقل المقر الرئيس للخطوط السعودية إلى الرياض ضمن قائمة تعلم الحلاقة، بينما لو أن (زملاء الكابتن مطر وتلاميذه) تولوا قيادة الخطوط لجعلوا كل مطارات المملكة ومكاتب الخطوط ومحطاتها الداخلية والخارجية مقرات رئيسة للخطوط، ولما تساءل أحد أين مقراتها الرئيسة، فالمحصلة النهائية هي خدمة الراكب من بوابة المطار إلى محطة وصوله، هذا الراكب الذي شاهدت الكابتن مطر بنفسي وهو يترك مقعده في الدرجة الأولى وينتقل إلى الدرجة السياحية من أجله، دون أن يعلم ذلك الراكب حتى اليوم أن ذاك كان مدير عام الخطوط السعودية، وقد آثره بمقعده تقديرا لمحاولته الحصول على مكان في الدرجة الأولى ولم يكن ذلك متاحا فاقتنع بمقعد متاح في الدرجة السياحية لكنه وصل إلى كبينة الطائرة وهو غاضب من الوضع، فأرضاه أحمد مطر وتنازل له عن مقعده بإصرار، بينما مدير الخطوط كاد يفصل موظفا في الخطوط منذ بضعة أشهر لأنه لم يعرف معاليه وينحني له عند مدخل الطائرة!

رحم الله الكابتن مطر، وأعان الخطوط ومنسوبيها على تحمل التجريب في مصائرهم، وتكريس إحباطهم، والأمر لله من قبل ومن بعد!!