ونحن نقرأ أي قصيدة أو نص إبداعي فإننا نقوم بعملية ترجمة للنص لا شعورية أثناء محاولتنا تفسيره أو استقراء المعاني الكامنة فيها. هذا ونحن في نفس بيئتنا اللغوية والثقافية، فما بالك بالمترجم الذي يتصدى لتفسير نص شعري في بيئة لغوية وثقافية مغايرة كاستجابة قرائية أولا، ثم بعد ذلك عليه أن يجند طاقاته اللغوية، وإبداعاته الترجمية، ومعرفته العميقة بثقافة النص المصدر، وقدرته على استنكاه الخيارات الدلالية semiotic choices في لغته (اللغة الهدف)، ولغة النص الأصلي (اللغة المصدر)، ليتمكن من تمثل مقاصد الشاعر والتأثر بالنص الإبداعي (القصيدة) قبل ترجمته، ومن ثم نقل هذا التأثير إلى قارئ النص المترجم ليتحقق ما أسماه يوجين نايدا بـ"التعادل الدينامي dynamic equivalence"، وهو يعني نوعا من التكافؤ والتناظر النسبي بين تأثير النص المترجم في متلقيه وتأثير النص الأصلي. وهذا ما يجب أن تكون عليه ترجمة الشعر، وأقول ترجمة مجازا، إذ يمكن أن نطلق على هذه العملية التثاقفية "نقل إبداعي" لروح القصيدة من لغة المصدر إلى لغة أخرى (الهدف)، ومقاربته شكلا ومضمونا باختيار الأسلوب الأمثل الموائم لدوافع ومقاصد الشاعر كما فسرها وتنبأ بها الناقل المترجم. ولن يتأتى تحقيق ذلك ما لم ينجح المترجم الناقل في استيعاب التجربة الشمولية والإنسانية التي أراد الشاعر التعبير عنها، وهي في نظري المحور الذي ترتكز عليه عناصر القصيدة وأفكارها. ومتى ما تحقق ذلك فإنه، أي المترجم سيبث فيها من مكنوزه اللغوي، وأسلوبه، وذائقته الجمالية، وشاعريته، ما يجعلها حية نابضة في أية لغة كانت، وعند أي قارئ متلق. وهنا تكمن الصعوبة الأخرى، إذ عليه أن يتمثل روح القصيدة في وعائها الأصلي وثوبها الأول، وينقلها بأمانة إبداعية خارقة ليحدث (نسبيا) نفس التأثير الذي رمى إليه الشاعر، وسخر لغته وأفكاره، وتورياته ومجازه، ورموزه واستحضاراته التاريخية والأسطورية allusions، وشواهده، ومباغتاته اللفظية، التي هي في مجملها بواعث الشاعر التي حلق بها خياله، ورسمتها انفعالاته ليتبلور المعنى العام للنص الشعري الذي تجسده تجربة الشاعر، وهي في مجملها جزء من الخبرات المشتركة بين جميع القراء المنتمين لبيئات لغوية وثقافية مختلفة، أي التجربة الكونية الشاملة.

كل ذلك يعتمد أولا وأخيرا على مهارة المترجم الذي يتصدى بجسارة لترجمة النص الشعري، وعلى ذائقته الأدبية والشعرية، وسعة اطلاعه، وإلمامه بخصوصية البيئة الثقافية للنص الأصلي، ومن ثم تمكنه من إعادة صياغة المعنى بأسلوب مقارب لأسلوب الشاعر. عندها فقط تصبح القصيدة المترجمة نصا موازيا للقصيدة الأصلية، وتنسج تأويلات المترجم أرضية ثقافية مشتركة بين النصوص الشعرية في اللغتين، وبين المتلقين من كلا الجانبين.