الرأي استحقاق لا يكون بغير حرية، قالت العرب قديماً (لا يطاع لقصير رأي)، وفي زمن العولمة (لا رأي بلا حرية)، فمناخات جورج أورويل في روايته (1984) لا تنتج سوى كلام لا رأي يستضاء به في سبيل النهضة والتنوير، فكتابة الرأي الحقيقي عملية سيكولوجية معقدة وصعبة، ما بين رصيدنا المعرفي ولغتنا، ما بين واقعنا وأملنا، ما بين إمكانية الكلام كحرية، وإمكانية الصمت كموقف، ما بين أصولية عمياء وحداثة عرجاء، ما بين دولة تحميك كواجب وجود، ووطن يحضنك كحُبٍ مفترض، ما بين يقين الولاء للحر مع الأحرار، وظنون الريبة بين السيد والعبيد، إنها مشوار طويل من حكحكة المعلومات مع المناهج العقلية وطرائق التفكير ليخرج الرأي بكامل جلاله، وما عدا ذلك فمواعظ تمضغ الكلام كسراب لغوي، لا يروي قارئاً لكنه يهدهد الرؤوس بقديم المحفوظ، كحكايا القصاص في التراث العربي، التي لم تزد تاريخنا سوى تيه بفضاءات ترقص على أجساد الضحايا، بسبب صراع سياسي، يلتحف الدين كسجادة يركض عليها وإليها من لا خلاق لهم في رأي سديد، أو فعل رشيد.

الرأي في الصحافة هو قولها الرزين ووجبتها الدسمة، لا يلقي لها بالاً عموم القراء بل خاصتهم، نخبة خاصة تعشق السطور الملأى بما وراء السطور، الكلمات التي تقول بالمعنى ما لا تقوله بالظاهر، فالرأي المباشر الفج طفولة المراهقين، والتورية بلاغة الراشدين.

الوعظ ليس رأياً، الوعظ أبوَّة مفترضة عبر محفوظات يتقنها الصغير قبل الكبير، فأين التجربة وحكحكة المعنى؟ الخبر ليس رأياً، هو نقل معلومة لمن يجيد تفكيكها وربط خيوطها من جديد، الأبوية في الطرح ليست رأياً رزيناً، هي أبوة تبرر صوابها بالعاطفة، والعاطفة لا تعطي رأياً، تعطي حناناً وحرصاً فقط.

الصحافة تحتاج كتاب رأي، لأن بلاط صاحبة الجلالة يحتاج مستشارين، ضمن طاقم طويل من الطباخين، في الغرف المغلقة، مروراً بالمراسلين، لتتناغم مع رئيس التحرير، كقائد أوركسترا، وصولا إلى مائدة القارئ كل صباح، عبر جهازه المحمول، أو صندوق جريدته المفضلة، المعلق بباب منزله.

الرأي جرأة الصدق الذكي، الرأي محنة الكاتب في العالم الثالث مع نقص المعلومة، فإن توفرت فمحنته مع تمريرها كما يجب أن تفهم، لا كما يراد لها أن تتجمل لتخفي تجاعيدها ونبوءتها السوداء، فالرأي استبصار عبر الاستقراء وكدح الذهن بين ركام المعلومات وأشواك اللغة ومحاذيرها، ليصل الكاتب أقصى مداه في توقد المعنى ونبل المقصد.

الرأي بلا حرية مجرد ظاهرة صوتية، الرأي بلا بصيرة وصدق مجرد تكرار الملق في (الشيوخ أبخص)، الرأي نضال فكري لأجل الوطن، لأجل الحياة، لأجل الفلسفات الكبرى، الرأي في الثقافة كسر للنسق، الرأي في السياسة بحث عن أقصى الممكن، الرأي في الحرب مهارة الوقوف بين موتين، الرأي في القبيلة (لولا المشقة ساد الناس كلهم... الجود يفقر والإقدام قتال)، الرأي في الزوجة (اسمع منها أكثر مما تحكي لها)، الحياة تبادل آراء، والآراء الحقيقية في ضمير الكتب، لكن من يقرأ؟!

كتابة الرأي محنة حقيقية تستلهم مددها من جروح الكاتب وقلقه الداخلي تجاه ما حوله، كاتب الرأي شاعر مبعثر الكلمات، يخطئ في الموسيقى اللغوية ويتوه عن موسيقى المعنى، فتتحول قصيدته إلى مقال رزين في صفحة الرأي، من يهوى قراءته هم مثله، يشكون نفس الجروح ويعانون نفس القلق، يبحثون عن هذه البعثرات التي تشبه الشعر وليست شعرا، قد يجد الشعراء قصيدتهم في ثنايا الكلمات لأنهم الوحيدون الذين يجيدون جدل الضفائر.

كتابة الرأي تنوع ثري واختبار حقيقي للحياة بين الكلمات، تدفق لا نهائي بحثاً عن اتجاه جديد، انسلاخ عن تراث قديم لا يريد فكاكاً من مقامات الحريري، يحاول استدراك السياسة والاقتصاد والاجتماع والأساطير والروحانيات في مقالات موجزة تقول له كلما استفتح فيها مقالاً: أنت في بلدان العالم الثالث يتاح لك فقط إشعال سيجارتك مع قهوتك الصباحية، فإن لم تكن مدخناً ولا تشرب القهوة مثلي، فأطلق زفراتك كي ترتاح من ظنونك في كتم الأنفاس.

خذ نفساً عميقاً واكتمه بقدر ما تستطيع، في آخر لحظة قبل الزفير تذكر أن الانفراج السياسي لرئتيك سيأتي رغم أنفك مهما كانت إرادتك حديدية في كتم أنفاسك، فالأكسجين مهما كان شهيقك وافراً لن يكون كافياً للقيام بوظائفك الحيوية للأبد، وإرادة الحياة في جسدك ستغلب قرارك، وهكذا هي الشعوب الحية، الأموات وحدهم لا يحتاجون سوى القبور، أما الأحياء فجدليتهم/ديالكتيكهم /شهيقهم وزفيرهم لا ينتهي فعله في التاريخ حتى ولو اختلط بأعلى نسب النيكوتين والقطران والكافيين، بحثاً عن هدوء اللحظة وسط الضجيج المتعصب الغوغائي المتقحم لتفاصيل الحياة، في هوس محموم لضبط الهمس، وتحريم بعض الأكسجين، قد يجده بعضنا في صوت رفيقتنا الصباحية (نهاد رزق وديع حداد)، متناسين أخذ العبرة في عجزها عن محاولة الهروب من الجدلية التاريخية عندما قالت: (يا دارة دوري فينا، ظلي دوري فينا، تينسوا أساميهن وننسى أسامينا، تعا تا نتخبى من درب الأعمار، وإذا هني كبروا ونحنا بقينا صغار...) ليت أننا نستطيع الاختباء برفقة أحبابنا من درب الأعمار هذا، ليت... ليت.