المنطقة تشتعل بالطائفية، فالوقائع المشاهدة بشكل يومي تعزز هذا الشعور عند كثير من العرب ومن الخليج حتى المغرب العربي على اختلاف في درجة تلك الطائفية من بلد إلى آخر، وإيران من جهتها محرك رئيس في تفعيل الطائفية في المنطقة بحكم تدخلاتها الكثيرة، وقد جرّت من خلفها عددا من الفصائل الشيعية في العراق وسورية ولبنان واليمن في مقابل الفصائل السنية المسلحة التي تتوزع في غالب الدول العربية وخصوصا في العراق وسورية، لتزداد الأمور سوءاً أكثر مما هي عليه، والعجيب هو سهولة تفجير المنطقة بالطائفية بأسرع مما كان متوقعا على رغم كل دعوات التعايش التي أطلقها مفكرون وسياسيون طيلة السنوات الماضية.
هذا على المستوى السياسي؛ أما على المستوى الشعبي فتظهر الكثير من المقاطع التي يتبادلها أبناء السنة استهزاء برجال الدين الشيعة. كذلك الحال تخرج مقاطع لتصرفات شباب شيعة ينم عن مواقف مضادة للسنة. كلا الطرفين يحملان تصورات عن الطرف الآخر تحمل عدائية كبيرة، وحينما تعتبر أن مثل هذه المقاطع لا تمثل إلا أصحابها ولا تمثل المذهب نفسه سواء من السنة أو الشيعة يصعد الهجوم إلى مستويات أعلى اتهاما بالخيانة الوطنية على اعتبار ولاء بعض الشيعة لإيران وحزب الله، وولاء بعض السنة لتنظيم القاعدة وداعش والنصرة. مثقفو الشيعة يعانون من متطرفيهم، ومثقفو السنة يعانون كذلك من متطرفيهم. وكلهم واقع بنظر هؤلاء المتطرفين تحت فكرة المروق من الدين أو الخيانة الوطنية.
ذكرت قبل عامين أن ما يحصل هو نوع من التمترس حول الذات جعلت كل مشروع يحاول أن يجفف منابع الاختلاف يُجهَض تماماً من خلال مشكلة التمترس هذه، لأنها نوع من الرؤية الضدية تجاه الآخر. رؤية لا ترى في الآخر إلا الشر الكامن متى ما وجد الفرصة للانقضاض علينا فلن يوفرها، ولذلك فإن الإمعان في الضدية هو رؤية "شرانية" تجاه الآخر. الآخر الطائفي عدو في جلباب صديق، هكذا يتم التفكير من خلال النظرة التي ترى في كل علاقة "آخرية" حرباً طويلة المدى نحن في خندق من خنادقها أو على ثغر من ثغورها. التمترس هنا عبارة عن مَصَدّات ثقافية ودينية واجتماعية وسياسية تكون دون الآخر الطائفي، تُصنَع بعناية فائقة بطريقة جدلية، وبنفس طويل جدا، مع الكثير من محاولات الإثبات الديني والثقافي، وربما مع نماذج من تصرفات المتطرفين من كل طائفة، حتى يصعب فيما بعد تفكيك أي مفهوم ينبني على رؤية طائفية تجاه الطائفة الأخرى. أنا هنا لا أستبعد أي طائفة من الطوائف عن هذا السلوك، بل إن جميع الطوائف بلا استثناء تصنع هذه الرؤية لتقف دون عمليات التبادل الثقافي بين كافة الطوائف التي يمكن أن يتحقق من ورائها ثراء فكرياً وثقافياً للطوائف الأخرى فيما لو استطاعت التعايش فيما بينها.
لم يكن التعايش الطائفي في العالم العربي محض خيال. كان حقيقة واقعية مشاهدة بشكل يومي خلال سنوات طويلة قبل أن تنحرف الأمور لأسباب سياسية. الخليج بشكل عام، وبعض مناطق الحجاز كان التعايش الطائفي موجوداً، بل وحتى العراق الذي نشهد فيه الكثير من الدماء بين الطرفين. كذلك الحال قبل 3 سنوات كان التعايش الطائفي في سورية موجودا، ومن العجب جدا كيف تحول هذا التعايش إلى دموية لم يشهد لها التاريخ الحاضر مثيلا إلا في العراق، والسبب كثرة التداخلات السياسية من عدد من الأطراف السنية والشيعية على حد سواء في تأجيج الصراع الطائفي، والذي ما كان يذهب ضحيته إلا الشعب نفسه، فالإنسان الشيعي أو السني هو المعني بالصراع وهو ضحيته وهو الوقود الذي تشتغل عليها السياسيات المتنافرة.
في البلاد العربية ما إن تفكر فئة من الفئات أن تطالب بحقوقها حتى يتم اتهامها بالخيانة الوطنية ومن ثم بالطائفية. إن من حق كل طائفة أن تطالب بحقوقها، ومطالبتها هذه لا يعني أنها تخرج عن إطار المواطنة الذي هو مكفول الحق لكل مواطن من مواطني الخليج أو العالم العربي بشكل أعم. لكن ربما تتحول هذه المطالبة إلى نوع من التصادم الثقافي في حال لم يتم تفهم رغبة الطائفة في الوجود والتعايش، أو من جهة أخرى، حينما يتم التفكير من خلال الطائفة ذاتها برؤية طائفية، بحيث تتحول المطالبات إلى هجوم ضدي تجاه الطوائف التي لم تمنحها جزءاً من حقوقها بسبب رؤية طائفية قاصرة. كما أن الهيمنة الثقافية لطائفة ما يمكن لها أن تحول الحق إلى تفضل يقوم فيه ممثلو الطائفة تجاه الطوائف الأخرى، وهذا إغراق في الطائفية إلى الحد الذي ينفي معه مفهوم المواطنة من أساسه.
عدد من الدول العربية تشتعل دماً وناراً، وكل الحلول التي يمكن أن تُقال هي محض أمل من قبل البعض. الأفق السياسي الطائفي مسدود تماماً حتى الآن. رجال الدين من الأطراف السنية والشيعية يشاركون في إشعال المعركة أكثر برؤاهم المتطرفة. كل الحلول السياسية في حل الأزمة عائدة إلى الرغبة في مكتسبات سياسية يحاول رجال السياسة أن ينتصروا بها على الطرف الآخر. مشروعات التعايش التي طرحت في سنوات الهدوء السياسي ذهبت هباء فلم تؤثر على البنى الفكرية العميقة، بل كانت أقرب إلى استعراض سياسي وديني وثقافي لا أكثر.