"الرزق يحب الخفية"، عبارة يطلقها المصريون على الشخص الفهلوي، ومن يمتلك سمات واضحة لا تخفى على العين، ومن أهمها استحالة وجود منطق يفرض عليه وعلى أفكاره، بأن هناك عائقا أو حاجزا يمنعه من الوصول إلى مبتغاه، طموحاته ليست ملزمة بأن تكون على مستوى عالٍ، بصيرته هي الضوء الذي يسير به ليكتشف الداخل والخارج، وهو مؤمن بأنه يستطيع أن يكون عاملا أو موظفا في أي مكان وزمان وتحت أي سلطة، يستطيع أن يعمل تحت الأرض وفوق السماء، المهم أن يصل إلى ما يريده، وسمة أخرى يتميز بها الفهلوي، فهو على سبيل المثال لا يثق بتقنية "جوجل مآب"، مؤمنا جدا بأنه يستطيع أن يستدل على الطريق ولو كان أعمى دون الحاجة إلى جهاز أو مساعدة صديق، فلسفته الذاتية بها نوع من الغرابة، حتى إنه لا يعترف بالخوف من التغيير أو التجديد، ولديه استعداد كامل لأن يبيع الماء في حارة السقايين ويضمن النجاح!

هذه العبارة تخطر في ذهني كلما ذهبت لزيارة أحد المطاعم، وسألت عن بعض العاملين الذين اعتدت على رؤيتهم لسنوات عدّة، وفجأة لم أعد أرى أحدا منهم، فيخبرني زملاؤهم أنهم انتقلوا للعمل في مكان آخر، فالرزق يحب الخفية، تغيير العمل أو المهنة الوظيفية أمر غير متعارف عليه في الخليج، موظف الحكومة يصبح عبدا مملوكا للجهة التي يعمل بها، قلة من يفكرون في التحرر والتحرك من مكان العمل والاتجاه إلى حظ ومكان آخر، تعلمنا الخوف الطاغي من التغيير، العبودية نشعر بها ونخضع لها دون حتى أن ندرك مدى قوتها وتأثيرها، فقد اعتدنا على التمسك بأي وظيفة مهما بلغ حجم ازدرائنا لها، ولا يرغب الكثيرون بممارسة عملية الاكتشاف، وأولاها اكتشاف أنفسهم وقدراتهم ومهاراتهم، فهل يعقل أن تطلب أكثر من وظيفة مضمونة -بإذن الله- حتى نهاية عمرك؟

أعرف أن قطاع التعليم في المملكة مثلا، الزيادات السنوية للموظفين ثابتة كاللوح المحفوظ، فأي طموح يمكن أن يصل إليه الموظف طالما أنه مدرك بأن ثمة تساويا بينه وبين البقية، مرات أجد أن مثل هذا النظام جيد، خصوصا للموظفات في قطاع التعليم، ربما لأن الأمر يعتمد على المديرة التي تتحكم فيها العواطف أكثر من المنطق والعدل والقدرة على المساواة، ولا أفهم سر عبوس وشراسة مديرات المدارس، ويبدو أن من تصنع مناقيش جبن وزعتر وكيك بالجزر، تصبح هي الأقرب و"البست فرند" للمديرة، شراسة وسوء إدارة بعض مديرات المدرسة تحتاج إلى تقييم إداري ونفسي، وأظن هذا الشيء ينطبق أيضا على مديري المدارس ولو أنني لا أملك أي معلومات كافية بهذا الشأن. ولا أعرف لماذا ضحكت على الخبر الذي نشر قبل فترة عن مدرسة في مدرسة ابن عبدالبر الابتدائية في قرية قصيريات بحائل، حين ناب أحد عاملي الصيانة في الإشراف على الطابور الصباحي، فلم يكن المدير أو أحد المعلمين قد حضروا بعد إلى المدرسة! أمر غريب أن يتفق الجميع على عدم الحضور إلى المدرسة في نفس اليوم، وأنا متأكدة من فرح الطلاب في ذلك الصباح البارد من عدم وجود رقيب أو حسيب، كما فرحت شخصيا بأن عامل الصيانة أحس بالمسؤولية وشعر بأن عليه أن يقود ولو لنهار واحد إدارة المدرسة، ما حدث بعد ذلك لم تدون عنه وسائل الإعلام.

ولنأت إلى مفهوم العمل والتغيير ولماذا يطبق الشعب الأميركي مفهوم المقولة الشعبية "الرزق يحب الخفية"، يخبرني أحد الأميركان العواجيز أنه يستغرب من بقاء السعوديين في ذات الشركة أو المؤسسة لسنوات طويلة جدا، بينما يستغرب الأميركي أنه يتسلم الآلاف من الريالات في مقابل عمل يوازي 30% من مهام عمله الذي كان يقوم به في وطنه، تخيل نفسك عزيزي المواطن أن يأتي اليوم الذي تشتكي فيه أن مرتبك الشهري أكبر من مهام عملك، لكن لا بأس كثير من الموظفين في قطاع الحكومة يتسلمون رواتب إلى حد ما جيدة، في مقابل ساعات تضيع نصفها في الفطور والصلاة ومواعيد الأولاد في المستشفى، ندرك من ذلك أن هناك ثمة موازنة، فعمل لـ6 ساعات يعمل فيها الموظف ساعتين بإنتاجية بحسب الإحصائيات، هذا غير التأخير والغياب، يقابله راتب يكفي الحاجة "أحيانا".

الأميركي يقول إن الموظف الأميركي لا يستمر في عمله لأكثر من عامين لينتقل بعدها إلى ولاية أخرى ويبدأ العمل في مؤسسة مختلفة، فالكثيرون يعشقون اكتشاف ولاياتهم واكتساب صداقات ومهارات متنوعه، طبعا يحدث هذا لأسباب كثيرة، أهمها تنوع الفرص الوظيفية، وعدم وجود زوجة تريد عش بيتها في نفس حي وشارع بيت أسرتها، بالنسبة للأميركان الابتعاد عن أسرهم يسهم في تقليص المشكلات، وعدم الاتكاء على مشاعر القبيلة والاحتماء بدرعهم، لكن الأمر في وطني لن يكون من السهولة أو المرونة في الوقت الآني، ولكن لربما بعد 50 عاما، أحفادنا سيكونون أقرب شبها لنظام العمل في أميركا. أتوقع ذلك جدا، ولنا ولكم طولة العمر.