قبل ساعات من تكريمه مساء اليوم في الدورة الـ14 لـ"ملتقى قراءة النص" بأدبي جدة، التي ستقام برعاية مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، يكشف الرئيس الأسبق لنادي جدة الأدبي عبدالفتاح أبو مدين لـ"الوطن" بعضا من ملامح سيرته مع الحركة الثقافية في المملكة، خصوصا مرحلة الثمانينات الميلادية التي شهدت صراعا بين تياري الحداثة وما يوصف بـ"الأصالة".
وفي حوار عفوي في منزله بجدة يسترجع أبومدين مع "الوطن"، العقود الثلاثة الصاخبة من التاريخ الثقافي السعودي، حيث ظلت تلاحقه أسئلة مثل، عما هي الوصفة السحرية التي امتلكها ليحوز نجاحا لافتا على مدى ربع قرن وهو يدير أدبي جدة في ظل سخط شبه جماعي أو عدم رضا بمعنى أدق، عن أداء المؤسسات الثقافية، ويحظى بكل هذا التكريم؟
لا يمكن لمن أراد التقصي بحثا عن إجابة أن يحيط بمقاربة مقنعة دون استحضاره واقع الفترة التي أدار فيها أدبي جدة "الفتى مفتاح" العنوان اللافت الذي اختاره لجزء من سيرته الذاتية، ويدرك حجم التحديات التي أحاطت به، بل بالحركة الأدبية برمتها، خلال تلك الحقبة التي شهدت ما سمي بـ"صعود المد الصحوي"، إبان ذروة الصدام مع ما عرف بـ"مناوئي الحداثة".
مواجهة الصعوبات
بين أقدم تكريم له في إثنينية عبدالمقصود خوجة عام 1984 وآخر تكريم عام 2005، إبان تسجيله اسمه أول رئيس ناد أدبي يستشرف ملامح المرحلة، ويقدم استقالته هو وأعضاء مجلس إدارته، يسترجع أبومدين ربع قرن قضاها في إدارة الصراع، وإدارة النادي، قابضا على العصا من المنتصف بصلابة، تفرغ للنادي كليا، حتى إنه لم يجد وقتا للقراءة، كما يقول متحدثا لـ"الوطن" عشية تكريمه مساء اليوم في "ملتقى النص"، وهو الملتقى الذي أطلق في آخر خمس سنوات من رئاسته للنادي، ليبقى آخر أيقونة من ملامح عهده الذي يصفه قائلا: 25 عاما قضيتها في النادي لم أقرأ خلالها كتابا واحدا لانشغالي الكبير بالنادي، أفخر بعطائي، هو في الحقيقة كان عطاء للوطن، لم أكن وحدي، كان حولي مجموعة من المثقفين الحقيقيين، لذلك تميز نادي جدة بأنه أكثر دعما للحركة الجديدة، كما أنه أول من فتح للمثقفة السعودية فرصة المشاركة وتحمل كل الاعتراضات.
وإذا كان عديد المراقبين ارتفعت أصواتهم أخيرا تنتقد ما تعده هيمنة الأكاديميين على الفعاليات الثقافية، فإن لأبي مدين رؤية يقول فيها: كان الأوائل يمتلكون ثقافة حقيقية وعميقة، على عكس الكثيرين من المثقفين الأكاديميين هذه الأيام الذين يكتفون بشهاداتهم من دون أن يتعبوا في تتبع مصادر المعرفة، وأتذكر في تجربتي بنادي جدة، أن بعض الباحثين الأكاديميين بعد عدة شهور من الطلب إليه المشاركة في فعاليات الملتقى، يأتينا ببحث هزيل، ولو غربلت اليوم المؤسسات الثقافية لما وجدت فيها الكثير من المثقفين.
أبو مدين المولود عام 925 ، صاحب مطبوعتي "الأضواء"، و"الرائد" والذي قضى في الساحة الأدبية والصحافية أكثر من ستين عاما يقول "أعمل الآن على إنجاز كتاب حياتي، وبسرعة مردها إلحاح فتاة اختارني المشرف على رسالتها موضوعا لبحثها، أما تكريمي في ملتقى النص فشرف لا أدعيه، لكن هذا التكريم جود من إخوتي في النادي الكرام الذين غمروني بأفضالهم لأنهم كرماء أثيرين فضلاء".
قليل الكلام شغوف بالعمل
*سلوى عبدالفتاح أبو مدين
ثمة مشهد يعاند الوصف، حكاية اختزنتها ذاكرتي، لفتى لم يتجاوز عتبات الطفولة، خاض رحلة في معترك الحياة، بكل ما فيها من قسوة، وفقد، ومعاناة.
ذاك الطّفل، الهادئ الخجول، لم يعرف ما هو اللعب مع الصغار، بل حفر في الصخر بيده الصغيرة التي أصابتها الجروح، وعجن الخبز، ورفع الحجارة الثقيلة في رمضان والجو قائظ. واجه الأمواج المتلاطمة بشجاعة، وتحملت روحه وجسده النحيل الكثير من المعاناة والمكابدة، وذاق مرارة الحياة بكل ما فيها. فقد كبر قبل أوانه!
وتمضي الحياة تاركة في نفسه ثقالا من الألم والوحدة، بعد فقد الأب والأم الرؤوم.
محطات لا تغادرني..
وهو يتكئ على جدار الفقد بعد أن أصبح وحيدا في هذه الحياة القاسية، ولا يملك شيئا فعمل وتعامل مع أصحاب حرف مختلفة، ولكن هذا البطل لم يستسلم، ولم تثن عزيمته، فخاض تجربة أخرى متسلحا بالثقة بالله وعونه، وبطموح وإصرار، جعلته يشق طريقا نحو التعليم، الذي لم يستطع مواصلته، ثم البحث عن العمل الذي حصل عليه بعد جهد، وكان الدافع إلى حب المعرفة والقراءة، فأخذ يقرأ ويقتر على نفسه ليقتني كتابا.
كم هي كثيرة كلمة مستحيل، لكنه استطاع أن يمحوه بالإرادة والعزيمة.
وصنع تاريخه بالعمل والتعلم والإبداع.
وبرزت موهبته الأدبية في عمله حتى وصل إلى ضفاف النجاح وشغل عدة وظائف، كان آخرها رئاسة نادي جدة الأدبي.
ولد أبي في (الميزان).. رجل متوازن في حياته، يفكر بعقلانية، واتخاذ القرارات الموضوعية، يجنح إلى السلام والهدوء، كريم، وصادق في تعامله مع الآخرين. محبٌ لأسرته، هادئ، قليل الكلام، لا يقحم نفسه في شؤون أحد، ولا يبد رأيه ما لم يُسأل، وَفِيٌّ لأصدقائه، بسيط غير متكلف.
منصت جيد، منظم في وقته، ناجح ومخلص في عمله، يعشقه حتى النخاع. قلقه دافع للعمل، وهو بالنسبة له عبادة، يمقت الكسل.
غرفة مكتبه بتفاصيلها الصغيرة، الكتب المتنوعة، مقعده الدافئ، أمامه طاولة تستلقي عليها أقلام ملونة، خاصة قلم الحبر الأسود الذي لا غنى له عنه.
الصحف والأوراق تشغل حيزا فوق مكتبه. أما الكتاب فهو أنيسه.
يقضي معظم وقته بين صفحاته دونما ملل، القراءة والكتابة ديدنه، فهو يكتب؛ لأنه يؤمن برسالته، والرسالة أمانة.
الحياة سفر.. هكذا قال عنها، يهوى السفر.. يقضي إجازته خارج الوطن، ينشد الراحة والاستجمام، يختار فصل الشتاء، حيث الجو البارد، والأمطار المنهمرة، مستمتعا بالقراءة، والكتابة، والدفء، ولقاء الأصدقاء.