كنا نأمل أن تتحسن العلاقات بين السعودية وإيران، للإفادة من كثير من المشتركات التي تجمع الشعبين، لا سيما ذلك الثراء الذي يجمع الثقافتين العربية والفارسية ويربطهما بحضارة الشرق، غير أن هذا الأمل بات رهن وجود نظام سياسي آخر في إيران؛ يؤمن بمبادئ السلم واحترام الجوار والمشتركات الثقافية، على أساس أن وجود هذا التقارب وتقلّص الخلافات يتجلى مسبقا في الأبعاد التاريخية والثقافية والدينية والجغرافية المشتركة بين السعودية وإيران.

انبثقت فرص التقارب خلال حكومة تيار "الإصلاحيين" في إيران، غير أن الأمور ما لبثت أن عادت إلى سيرتها الأولى، ذلك أن طبيعة النظام السياسي الإيراني وأيديولوجيته المتطرفة التي تم بثها في المجتمع الإيراني منذ بدء الثورة الخمينية؛ جعلت من إيران دولة مارقة تهدد جيرانها ولا تحترم السيادة والأعراف الدبلوماسية، وما حصل للبعثات الدبلوماسية السعودية مؤخرا هو عادة اتبعها النظام منذ اقتحام السفارة الأميركية في طهران، واحتجاز رهائن داخلها عام 1979، وأدت هذه الأحداث إلى قطع العلاقات مع إيران، واليوم نجد أن التاريخ يعيد نفسه بشكل هزلي؛ لأن النظام الإيراني يغامر ويقامر في المنطقة بشكل غير محسوب!

ولذلك، كان قرار المملكة بقطع العلاقات مع إيران متوقعا؛ بعد أن تجاوزت الأخيرة كل الأعراف الدولية والمبادئ الدبلوماسية، بوقوف الأمن مكتوفي الأيدي أمام اللصوص وقطاع الطرق الذين تجمعوا أمام السفارة والقنصلية ليحرقوا مبنييهما بعد نهبهما، على خلفية الأحكام القضائية التي نفذت بحق الإرهابيين أخيرا.

ورغم تعهد إيران بحماية البعثات الدبلوماسية أمام مجلس الأمن الدولي، إلا أنه من غير المتوقع أن تعود العلاقات السعودية الإيرانية دبلوماسيا دون حل المشكلات، ومن أهمها تغيير الخطاب العدواني الذي يهدد المنطقة منذ ثلاثة عقود، مع الاستمرار في محاولة التغول بالتحول إلى بعبع سياسي، خاصة بعد الاتفاق النووي مع الدول الغربية الذي يصوره النظام الإيراني بأنه انتصار سياسي مهم.

يقوم النظام الإيراني على السلطة المطلقة للملالي "رجال الدين" المغطاة بسلطة الولي الفقيه، وهي سلطة براجماتية تقوم على تحقيق المصالح الشخصية المادية والمعنوية في المجتمع بشكل مطلق، انطلاقا من الزيف والكذب الديني؛ مما يعني أن هؤلاء الملالي سيعارضون أي فرصة لوجود علاقات طبيعية وسوية بين أفراد الشعب الإيراني نفسه، وبينه وبين شعوب المنطقة التي لا تؤمن بسلطة الولي الفقيه.

ويقوم خطاب الملالي السياسي والاجتماعي على الخطاب "الديماغوجي" الذي يحتوي النبرة المؤثرة في الجماهير، ومن ذلك شعار العداء والموت لأميركا وإسرائيل، والذي استمر لعقود، لكنه زال بمجرد توقيع الاتفاق النووي، وبقي هذا الخطاب مصوّبا نحو الخصم "التاريخي" المملكة العربية السعودية، مما يصعّب فرص "التطبيع" الثقافي مع الشعوب العربية، خاصة في ظل وجود قوى سياسية مؤثرة في المجتمع الإيراني تدين بالولاء لنظام الخوف الذي تنتمي إليه، وهذا ما أدى إلى مغادرة كثير من الإيرانيين بلدهم نحو أوروبا وأميركا، بعد أن جلبت عليهم الثورة الخمينية ويل الأيديولوجيا وثبورها، فتم أدلجة كل شيء تقريبا حتى الصحافة والفنون البصرية والتشكيلية، كما تم الحجر على الفنانين والمثقفين والصحفيين؛ وانتقلت إيران من دولة مدنية في عهد الشاه إلى دولة دينية في عهد الخميني، فتحوّل مجتمعها الثري بتكويناته إلى مجتمع منغلق تسيطر عليه القيادات الدينية، وهذا ما يريده الملالي!

ولهذه الأسباب، فإن التقارب الثقافي مع المجتمعات الأخرى يورط الملالي في المقارنات.

بمعنى أن بعض الأجيال الإيرانية الجديدة يقارن وضع بلده بوضع غيرها، خاصة في ظل الثورات العلمية والتقنية الهائلة عالميا، وبالتالي يحصل التمرد على السلطة الكاذبة للولي الفقيه؛ الأمر الذي أدى إلى اتباع النظام الإيراني سياسة "الإفقار الثقافي" من خلال الرقابة على الإعلام، والفنون، والجامعات، وحتى على السلوك الفردي للنساء من خلال الشرطة الدينية، ذلك أن فترة حكم الإصلاحيين في إيران كانت متنفسا اعتقد الإيرانيون أنه

سيستمر، لكنه ما لبث عدة سنوات حتى أغلق المرشد ونظامه الباب الموارب؛ مما يعني أن الأمر كان مجرد تنفيس مؤقت وامتصاص نسبي لأثر عقود من العزل الذي اتخذه النظام بحق المجتمع الإيراني، الأمر الذي أدى إلى الثورة الخضراء عام 2009.

ولكي يستمر الملالي في تسلطهم المنبثق من السلطة السياسية هذه، لا بد من وجود "عدو" سياسي وأيديولوجي دائم، وهو ما سارت عليه السياسة الخمينية التي انتخبت نفسها الأفضل على الإطلاق، ولن يكتشف الشعب الإيراني بأن العدو الذي رسمه لهم الملالي ليس عدوا حقيقيا إلا خلال "التثاقف" والتواصل المعرفي؛ ولذلك بات ضروريا وجود وسائل ثقافية مؤثرة، خاصة أن الفرصة اليوم متاحة -عن بعد- عبر وسائل الإعلام لصناعة ثقافة ورأي عام، أكثر تأثرا وتأثيرا.