لا شك أن التنظير الإسلامي، إن كان دوما يخضع إلى إعادة بناء بهندسة حديثة، سيصبح حتما نظاما صالحا لاستيعاب كل الإشكالات المتجددة التي تشكل راهنية كبرى، وهو في ذلك لن يحقق إلا المقصود الشرعي من العقل الجمعي المسلم.
نظرا لتعدد الفضائح السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها في العصر الحديث، بات من الضروري التفكير جديا في منهج جديد من أجل ديونطولوجيا الحياة السياسية في عصر العولمة، ليس فقط لسيطرتها على مختلف الأبعاد الأخرى لحياة الإنسان، بل أيضا لسد الفراغ المهول الذي يعانيه الإنسان المعاصر في تشكيل هويته العميقة، بما في ذلك الإنسان المسلم.
عندما طغت الماديات على الإنسان المعاصر التهى بها التهاء شديدا جعله ينسى المقصود من التقانة التي أبدعها عقله الجمعي، من أجل مقصد أسمى كان يتغياه ابتداء، وهو تيسير الحياة الإنسانية لتحيا الإنسانية في رخاء في حين وجد نفسه -بعد إغفال الجانب الروحي والمقاصدي الذي كان ينبغي أن يمشي في موازاة مع تقدم التقانة- قد وصل إلى نقيض مقصوده الذي ابتدأ من أجله الطريق.
لقد أصبح الإنسان المعاصر فريسة لعولمة القيم التي يسوقها العالم المتقدم لخدمة اقتصاداته القوية بالأساس من تسويق لطريقة أكله وشربه ولباسه وموسيقاه، بل وفي كثير من الأحيان، بتغييبه الجانب القيمي، قد يؤدي به الأمر إلى صنع اتجاهات وفلسفات وجماعات من داخل الدول النامية تحمل نسخة هجينة ومحرفة من قيمها الأصيلة تخدم بلباس قديم أجندات جديدة تمشي في نفس سياق تكبير هامش الأرباح الاقتصادية للدول العظمى.
أليس هذا هو المنحدر؟ حينما يصبح فكر الإسلام يهدم الإسلام نفسه؟ فيتحقق في المسلمين القول الإلهي "يخربون بيوتهم بأيديهم". في حين هم في حقيقة أمرهم، إن هم تمسكوا بالقيم العليا لدينهم واستمسكوا بالعروة الوثقى التي ليست في نظرنا إلا روح الدين، عوض قشره، فقلب الشيء كان دوما هو عموده الأساس الذي شيد عليه بناؤه، فيا عجبا لمسلمين نسوا مقصد السير والتهوا عنه بإشارات مرور الطريق، كانت رغم أهميتها أولى بأن تتبع ولا أن تصبح هدفا في عينها!
حين تتبنى الأحزاب السياسية خطاب التخليق والإصلاح في زمن يركز فيه المواطن العادي على ظاهر الأشياء ولا ينظر إلى عمقها، هنا يكمن الإشكال، حيث إن المواطن العادي يتعاطف أوتوماتيكيا مع من يلبس حلة إسلامية في ظاهرها حتى وإن فقدها هذا الأخير، مستشهدا بقولة لعمر حتى وإن لم يعرف سياقاتها، حيث إنه يحفظها عن ظهر قلب فلا يتردد في تطبيقها، وهي "من خدعنا في الله انخدعنا له".
إن إدخال الخطاب الديني في السياسي أمر في غاية الأهمية بالنسبة لمجتمع مسلم حتى النخاع، وليس ذلك وحسب، بل إن غالبيته أمية بمعنى أنها لا ترى إلا الأمور في سطحيتها دون الغوص في أعماقها، لذلك في الخطاب السياسي في أرضية كهذه، خطأ أن تتبنى بعض أحزابها سياسة اليسار وعمق أعماقها محافظ، لذلك فمنخرط هاته الأخيرة حتى وإن أظهر يساريته فإنه سيصوت على حزب محافظ في الظاهر وإن كان هذا الحزب ليبراليا في العمق.
لا غرو أنه هناك من قد يتبنى طرح إلغاء الديني داخل السياسي، ولا شك أنه طرح قد يكتسي أهمية بالغة بالنسبة للبعض، لكننا لا نظن أن أرضيته هي بلاد مسلمة حتى النخاع.
انظر معنا أيها القارئ العزيز إن كان العالم المتقدم في بداية القرن المنصرم قد وصل إلى ما وصل إليه من صناعة العقل الجمعي العربي المسلم، فكيف به سيكون الحال في وقتنا الحالي وقد تطورت العلوم والمناهج تطورا مضاعفا لا يمكن أن يوصف.
وما نسمعه اليوم عبر قنوات الإعلام من تبني مختلف الجماعات والجهات والفلسفات لفكر سموه "إسلاميا" في حين هو أبعد ما يكون عن ذلك، إلا نوع من هاته الصناعة التي تحدث عنها جان بول سارتر قبل أكثر من قرن من الزمن.
لا شك أن التفكير الجدي في ديونطولوجيا السياسة بات ضرورة لا مناص منها، لكن يبقى التساؤل المطروح مفتوحا والذي ينبغي على مختلف مراكز البحث الاستراتيجي في مجتمعاتنا العربية أن تتصدى للإجابة عنه هو: أي خطاب ينبغي أن تتبناه الأحزاب السياسية؟ وأي ميثاق ديونطولوجي ينبغي الالتزام به؟ وكيف يمكن أن يلتزم به الجميع باختلاف مرجعياتهم وتنوع أيديولوجياتهم؟
لا شك أن الدولة الحديثة هي خير إجابة عن هاته التساؤلات لكن بأي جبة؟ ذلك أن خطابا عصرانيا لا بد أن يلقى مقاشحة من عقل محافظ سطحي فأي بيداغوجية صالحة لتحديث العقل المسلم؟ وأي تدرج ينبغي اعتماده في تجديد الخطاب السياسي والديني على حد سواء؟
وأخيرا وفي بعد ومستوى آخر: أي خطاب ينبغي تبنيه لإقناع الآخر الحضاري بتقدم الوعي الديمقراطي في بلداننا النامية؟ وعلى أي مقياس ينبغي أن تعتمد تقاريرنا المقدمة إلى الدول المانحة حتى تكون لديها مصداقية إقناعية من أجل الحصول على إمدادات التنمية؟