في التاريخين السياسي والاجتماعي للمملكة العربية السعودية حقيقتان: الأولى، أن أحداً قط، لن يستطيع البرهنة على أنها كانت طرفاً في بذرة نزاع من كل بؤر الخارطة العربية الملتهبة أو أنها كانت بالميل أو الانحياز مع هذه الطائفة أو تلك، أو هذا الفريق ضد ذاك رغم أن الانقسام، مع بالغ الأسف، هو طبيعة المنظومة الاجتماعية في محيطها العربي. الثانية، أن هذه المملكة، وطوال تاريخها لم تحتج لموقف أحد ولم تناور لأنها رهينة لفضل دعم أو موقف من هذا أو ذاك ولم تمد يدها حتى منذ زمن الحاجة. واليوم، هل أدركت بغداد – السياسية – طبيعة حياد الرياض أو وقوفها الصامت على أطراف هذا المثلث الساخن من الخريطة العراقية؟ وأكثر من هذا كيف فهمت بغداد رسالة الحياد السعودي الطويل؟
اليوم يقف المشهد السياسي في العراق مع لحظة حاسمة لنفسه بعد النداء الملكي السعودي الذي قد يمثل خشبة نجاة لمستقبل أجيال كاملة في بلد عاش ضحية لعبث المذهبية الطائفية والتشرذم السياسي. وقبل أن يقرر هذا الطيف الواسع من فسيفساء العراق وألوانه أين يقف من الدعوة اليعربية لعبدالله بن عبدالعزيز فإن له أن يقرأ السوابق: كان الملك فهد بن عبدالعزيز أول زعيم في التاريخ ينصب عمود خيمته على حدود بلدين ليضمن بالمادي المحسوس أن رواق الخيمة يتوزع بذات الأبعاد على أراضي الجزائر والمغرب الشقيقين وهو يدعو زعيمي البلدين إلى مبادرته التاريخية لطي صفحة الخلاف الطويل، ومهما كانت النتائج من بعد، تلك التي لم تصل للمؤمل، إلا أن الزعيم السعودي وشعبه ظلا يحظيان حتى اليوم بثقة الشعبين الشقيقين في نظافة اليد وفي المسعى النقي وفي الوقوف على مسافة واحدة من الجميع رغم الحسرة على إهدار الفرصة: كانت المملكة أيضاً، وفي ذات الظروف هي ذات البلد والقيادة التي دعت فرقاء الحروب في لبنان الشقيق إلى اجتماعهم التاريخي في مدينة – الطائف – بعد أن حاول العالم بأسره من قبل أن يجرب في هذا البلد كل الحلول وانظروا بعد عقدين من الزمن من ذلك اليوم إلى الحقيقة التي لم يلتفت إليها أحد: في كل مدونات الحروب وفي كل مذكراتها التي خطها الإخوة من لبنان بكثافة لتأريخ تلك الحرب فإننا لم نقرأ فيها كلها سطراً واحداً يحاسب بياض الحياد السعودي ونزاهة الوسيط. قد يختلف الفرقاء من بعد على تفسير الاتفاق أو يتبارون إلى خروقات من هنا أو هناك ولكن أحداً لم يتحدث عن – الرياض السياسية – إلا ضامناً نزيهاً وشاهداً يقف بالحرف على مصداقية الكلمة. وحتى حين مشى لبنان الشقيق درب التجاذبات الطويل فإنه يعلم تماماً أن عبدالله بن عبدالعزيز، وحده، هو من يستطيع أن يصطحب شقيقه الزعيم السوري على بعبدا: لم يقل أحد إن لدى عبدالله بن عبدالعزيز مفاتيح (اللعبة) لأن الكل يؤمن أن العربي الشهم لا يؤمن بما بين الأقواس المقفلة من كلمة. حين لاحت آفاق فلسطين الشقيقة بغيوم الانهيار التاريخي لوحدة الصف التي كانت وحدها سلاح هذا الشعب في كفاحه الطويل، أتى بهم عبدالله بن عبدالعزيز إلى أمام أستار الكعبة. لم يقف مع الفرقاء داعماً وضامناً فحسب، بل مستعداً للبذل وتمويل بناء الدولة إلى ما لا حدود، ووقف شاهداً على التفاصيل، تلك التي اختلفوا حولها من بعد ولكنهم لم يختلفوا مطلقاً على نزاهة الرياض، قيادة وشعباً ولم ينتقصوها حتى اللحظة ببنت شفة.
اليوم، آن لمشهد بغداد وأطيافه أن تقرأ هذا التاريخ وأن تدرك أن الفرصة الأعلى من الرياض، ومن التاريخ، لا تكرر نفسها إلا مرة واحدة. آن لهذه الأطياف والأعراق والمذاهب والأديان أن تعلم أن الرياض وحدها لن تكون بالإجماع ذلك المضيف النزيه فحسب، بل القوي الذي يستطيع، وحده، أن يكون الضامن الذي سيأخذ هذا البلد إلى أبواب المسرح الذي يجب أن يكون فيه. لا مصلحة للرياض أن تكون مع أحد أو تنحاز إلى أحد ولا حاجة لها أن تساوم على دور إقليمي وهي التي تخطت هذا المكان إلى قلب الطاولة العولمية الكبرى في نادي العشرين، وهي التي أيضاً تمسك بمفاصل الاقتصاد العالمي وتقود اليوم أعظم قصة بناء تنموي على وجه الأرض وتتحكم بأكبر مال سائل في سوق النقد الدولي. كان يمكن لهذه المكانة ألا تبرح المكان الذي جعل منها حقيقة لا تحتاج لموقف أحد أو دعم أحد ولكنها الرياض مرة أخرى مع القدر: فهل يعي الفرقاء في بغداد الشقيق ذهبية الفرصة.... أشك.