سنقف قليلا مع حدث قتل سبعة وأربعين مدانا في أحداث عنف جرت في بلادنا منذ عام 1422، وما زالت آثارها على المستوى الثقافي والاقتصادي والسياسي والتنظيمي والأمني قائمة حتى يومنا هذا وعلى مستويات شتى.

لم يكن حدث كهذا جديدا على بلادنا، فقد تم تنفيذ الحكم الشرعي القتل حرابة في عدد من المخربين في بداية الثمانينات من القرن الهجري الماضي، كما تم تنفيذ القتل حرابة في أكثر من 60 رجلا إثر اعتداء الفئات الضالة على الحرم المكي عام 1400 للهجرة، وكذلك تم تنفيذ هذا الحد في 16 رجلا من جنسية خليجية، إثر قيامهم بتوجيه من المخابرات الإيرانية بتنفيذ تفجير قرب جبل الصفا في الحرم المكي.

هذا فيما يتعلق بتنفيذه بأعداد تتجاوز العشرة، أما فيما يتعلق بالواحد والاثنين والثلاثة، فما زالت بلادنا وستبقى تقيم شرع الله تعالى على كل من تسول له نفسه تجاوز حدوده سبحانه وتعالى.

لكن السؤال: لماذا قام العالم ولم يقعد على ما تم يوم السبت22 /3/ 1437، ولم تقم مثل هذه الضجة ولا ربعها ولا نصيفه على تنفيذ الأحكام التي أشرنا إليها في التواريخ السابقة؟

عام 1400 تم تنفيذ القتل في أكثر من 60 رجلا في عدد من مناطق المملكة، وتناقلت وكالات الأنباء ذلك الخبر بهدوء تام، بل وكان العالم الإسلامي مسرورا لهذا الحدث، وفي حدث عام 1409، على الرغم من أن إيران كانت وراء تلك الحادثة وفق اعترافات المُدانين المسجلة والمبثوثة على شاشات التلفزيون، إلا أن ردة فعلها لم تكن بهذه العنجهية التي نشهدها اليوم.

فما الأسباب يا ترى وراء اختلاف ردود أفعال العالم ووكالات الأنباء ومنظمات حقوق الإنسان؟ وما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ الجواب في رأيي ليس في تغير أو تطور وسائط الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، كما يرى بعضهم، ولكنه في تغير إستراتيجية العالم من المملكة العربية السعودية.

فاليوم، أصبح العالم الأول ينظر إلى السعودية على أنها الدولة المستعصية التي لم تنصع لخطط الهيمنة العالمية الصهيونية، ولم تصبح أداة في يد أي مشروع غربي أو شرقي في المنطقة، فقد استعصت منذ حرب عام 1393هـ على خطط التصالح مع الصهاينة، على الرغم من الضمانات المتعددة التي قدمها عمالقة السياسة الأميركية منذ ذلك التاريخ لمنظِّري دولة الصهاينة، لإدخال السعودية ضمن منظومة الدول المتصالحة مع ما يسمى بإسرائيل، ولكن تلك الضمانات رغم قوة من قدَّمها "كارتر، ريجان، كلينتون، بوش" لم تصنع شيئا مع متانة السياسة السعودية وعراقتها، وجميع هؤلاء الساسة يعلمون: أن السعودية لو دخلت في هذه المنظومة أدخلت جميع الدول وراءها ولم تبق دولة واحدة.

بل إن كثيرا من الدول قدمت وعودا في الانخراط في العلاقات المباشرة مع الكيان الصهيوني بشرط موافقة المملكة العربية السعودية، وكثير منها فتح مقدمات لهذه العلاقات كمكاتب تجارية أو تمثيل سياسي جزئي أو زيارات سرية، لكن السعودية لم تفعل شيئا من ذلك، وحاول الإعلام الصهيوني والمتضامن معه إحراج السعودية وإلجاءها إلى مثل هذه العلاقات، عبر تأليف أخبار زيارات ولقاءات سرية بين السعودية والصهاينة، ونشرها على أنها أخبار مسربة، ومع أن أبواق التصديق في العالم العربي ارتفعت بتصديق مثل هذه الأكاذيب، إلا أن المملكة لم ترضخ ولم تتقدم خطوة واحدة، سوى تلك المبادرة التي قدمها الملك عبدالله، رحمه الله، وسميت المبادرة العربية آنئذٍ، وأعلن نتانياهو في الكنيست الصهيوني عام 2008 أنها مبادرة أحرجت إسرائيل، وكان هذا هو الواقع، فقد ظهر العالم العربي أمام الإعلام العالمي متسامحا مقدما التنازلات، وانكشفت السياسة الصهيونية التي لم تكن في يوم من الأيام لتسمح بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، كما هو شرط المبادرة التي كانت عربية، ولم تعد السعودية تتكلم عنها اليوم، لأنها كانت فقط مجرد فضح عالمي لأكاذيب الصهاينة.

السعودية أيضا لم ترضخ طوال تلك السنوات لشروط المنظمة العالمية للتجارة التي كان انضمام السعودية إليها دون قيد أو شرط هدفا لدول العالم الكبرى، فظلت مصرّة على تحفظاتها حول ما يخالف الشريعة الإسلامية من بنود المنظمة إلى أن رضخت الأخيرة لشروط بلادنا.

وحاولت الدول الكبرى أكثر من مرة أن تجعل السعودية تقف معها في أزماتها الاقتصادية دون قيد أو شرط، لكن ذلك لم يحدث وأصرت المملكة على موقفها توسيع حصتها في البنك الدولي وعلى شروط أخرى، وبه توسع نفوذها الاقتصادي على دول العالم ومع كل هذا لم تكن السعودية في مؤازرتها الاقتصادية لدول العشرين، تلك الدولة التي تعطي دون أن تأخذ، بل ربما قلنا إنها كانت تأخذ أكثر مما تعطي.

ولم ترضخ السعودية أيضا للاتفاقيات المؤثرة على الجانب الأخلاقي والاجتماعي في العالم، كاتفاقية السيداو، وما سبقها من مؤتمرات عالمية، وما تبعها من بروتوكولات، فقد أصرت المملكة على التحفظ على كل ما يخالف الشريعة الإسلامية من بنود تتعلق بالمرأة والأسرة والأمومة والقوامة والطفل، وتُوِّج ذلك بخطاب وزير الخارجية السعودي قبل أشهر في الأمم المتحدة، والذي أصر فيه على مفاهيم الإسلام الخاصة بالمصطلحات التي تتعلق ببناء الأسرة والمجتمع.  ولم ترضخ المملكة لضغوطات أميركية لتوحيد مصادر التسليح، ولا لضغوط تجعل الدول الكبرى هي المتحكمة في سعر النفط زيادة ونقضا بما يتوافق وسياساتها الخاصة.

كما استعصت السعودية، بفضل من الله ومنة، على الضغوط الشديدة في سبيل العدول عن تحكيم شريعة الله تعالى في قتل القاتل ورجم الزاني وقطع السارق، وكان موقفها في مؤتمرات حقوق الإنسان صريحا ورائدا ومثلجا لصدر كل مسلم محب لدينه، وغيور عليه.

كانت السعودية، حكومة وشعبا، أبيّة على مخطط الفوضى الخلاقة العالمي الذي سُمِي بالربيع العربي، وتم تسخير إمكانات إعلامية عظيمة لإنجاحه في كل مكان، ولكن فشله الذريع في بلادنا كان صدمة لصناع المؤامرات في عالمنا العربي.

أما مشروع التغيير الثقافي إلى القِيَم الغربية، فحدث عن استعصاء بلادنا عليه ولا حرج، وقد كان "هملتون جب" في كتابه "إلى أين يتجه الإسلام" الذي ألفه قبل قرابة التسعين عاما، تواقا إلى إحداثه عندنا، ولعله أول من صرح بهذه الأمنية، وكان ذلك عام 1930، إلا أن السعودية رغم ما حصل فيها من الانفتاح على مختلف الثقافات: الإعلامية والتعليمية والسياحية، وما تمتعت به وما تزال من الرخاء المادي، لم تزل أبيّة على مشروع العولمة أو تغيير القِيَم، حتى شكا من ذلك فرانسيس فوكوياما، وعزا هذا الاستعصاء، على ما سماه القيم الأميركية، إلى التوجه السلفي الذي تتميز به هده البلاد.  

هذه أشياء مما تغير، وليست هي كل ما تغير، لكنها تكشف لنا عن جانب من أسباب تغير مواقف دول العالم ومنظماته تجاه كثير مما يحصل في بلادنا، وتوجههم إلى الوقوف السلبي حتى تجاه ما يزعمون مشاركتنا فيه، كالحرب على الإرهاب، والتي يرفعون أصواتهم بها حينما تكون تهمة يريدون إلباسنا إياها.

أما حين يرون حربنا الجادة عليها، ويقارنون بينهما وبين حربهم الهزيلة عليها، فإنهم يرفعون مزاعم حقوق الإنسان أو غيرها من الشعارات، محاولين إفقاد إنجازاتنا فاعليتها في التأثير على دعايتهم التشويهية التي يحاولون إلصاقها بِنَا، ومن ذلك هذه القضية التي نعيش تفاعل العالم معها، قضيةَ تنفيذ الحدود على المحكوم عليهم شرعا.