قبل عام من الآن، وفي مثل هذا اليوم تحديدا، كنت متجهة إلى مقر عملي في ضاحية باريس، كما جرت العادة.
الجو كان مشمسا رغم برودته، ولم يكن في الأفق ما يشير إلى أن السابع من يناير سيكون يوما استثنائيا يغير حياة الفرنسيين ويطبع تاريخهم.
وصلت عند منتصف النهار تقريبا، فإذا بسيارة شرطة تقف أمام المبنى، ترجل منها عنصرا أمن، وبدآ في مراقبة المدخل وحراسته، والتدقيق في هويات الموظفين.
الأمر كان أشبه بزيارة محتملة لمسؤول عربي مهم إلى مبنى منشأة حكومية، ولأنني أعرف أن هذا المشهد لا يبدو مألوفا في فرنسا، حاولت الاستفسار عما يجري، فجاءني الخبر كالصاعقة.
مسلحون مجهولون يقتحمون صالة التحرير في مقر صحيفة شارلي إيبدو الأسبوعية الساخرة، ويطلقون النار بشكل عشوائي على طاقم التحرير الذي كان مجتمعا كعادته في صبيحة كل يوم!
لم أستوعب هول الصدمة إلا عندما شاهدت كاميرات التلفاز وهي تهرع بمراسليها إلى مكان الحادث لترابط هناك حتى ساعة متأخرة من الليل، في محاولة لفهم ما حدث، وفك طلاسم هذه العمل الإرهابي.
كصحفيين، نعرف جيدا ما أقدمنا عليه منذ البداية، وكيف أننا اخترنا مهنة البحث عن المتاعب دون غيرها، وعن سبق إصرار وترصد يمتزجان بالمتعة والتحدي، فمنا من خُطف، ومنا من دفع حياته ثمنا من أجل الوصول إلى الحقيقة، وفقدنا كثيرا من زملائنا في سبيل ذلك، فالموت على أجندة الصحفي كلمة مألوفة، كتلك التي نجدها في قاموس الجندي على أرض المعركة.
لكن الأمر هنا كان مختلفا تماما، فطاقم الصحيفة الفرنسية لم يكن في سورية ولا في العراق ولا حتى في مالي، بل كان في عقر داره، في باريس، حيث حرية الكلمة والرأي والمعتقد مكفولة للجميع، فما بالك بأصحاب القلم على اختلاف توجهاتهم السياسية ومشاربهم الفكرية.
لست هنا بصدد تبرير ما قامت به الصحيفة، أو مناقشة سياستها التحريرية، فتلك كانت مثار جدل في فرنسا على مدى سنوات، ودفعت الصحيفة ثمنها غاليا أكثر من مرة، خاصة عندما تم إحراق مقرها على يد مجهولين قبل عدة أعوام.
حادثة رغم خطورتها لم تنبئ بما هو أخطر، ولم يتوقع كثيرون هذا السيناريو الكارثي الذي كان بانتظارها.
حتى هذا اليوم لم يكن لأحد أن يتخيل أن تحتل فرنسا المركز الثالث على قائمة الدول الأكثر خطورة على حياة الصحفيين بعد سورية والعراق مباشرة،
لكن مع الأسف، إنها الحقيقة المرة التي خلفتها هذه الحادثة الأليمة بعد أن حصدت أرواح 8 صحفيين دفعة واحدة من أصل 67 قتلوا في أكثر بقاع العالم سخونة حول العالم.
هو يوم غيّر وجه فرنسا، كان يمكنك أن تلمح ذلك في عيون الفرنسيين الذين احتشدوا في مسيرة ضخمة شارك فيها 50 من قادة الدول والحكومات بعد الحادثة، هي مسيرة الجمهورية التي اختاروا لها أن تكون نقطة لمراجعة القيم التي قامت على أساسها الجمهورية الفرنسية، لا سيما تلك المتعلقة بالعدالة والأخوة والمساواة، فهل ما زالت هذه القيم تحكم المجتمع الفرنسي وتضمن تعايش مكوناته بمحبة وسلام؟
سؤال ما زال الفرنسيون يبحثون عن إجابته، إلا أن الأمر الذي يمكن تأكيده هو أن عاما بدأ بشارلي إيبدو، وانتهى باعتداءات باريس هو عام لن ينسى حتما، ولن يمحى من صفحات الذاكرة الفرنسية.