ما الجدوى التي ستعود على العاملين في حقل صناعة الموقف العام، من أي حدث يمر بالبلاد، إذا كانت المؤسسة الإعلامية تنساق خلف الصراخ السائد، ويتملك أفرادها الرعب من اتهامات الجماهير لهم بالخيانة لعملائها؟ أكثر من هذا ما البصيرة التي يفترض أن صانع القرار يرصدها في كتابات المستقلين عن أجهزته، إذا كان الذين نوليهم ثقتنا في نقد الواقع والوقائع التاريخية منساقين أيضاً في هذه التلبية العامة والتمجيد المطلق!.
الأكيد أن السياسي لا يتعامل مع الآراء التي لا توافق سياساته، مهما كان موقفه منها، كتعامل الجماهير، لا سيما إذا كانت تصدر من شخص مستقل، لا ينطوي تاريخه على أعمال مناوئة. لدينا عدد جيد من كتاب الرأي، موزعين على الصحف المحلية والعربية والدولية، إضافةً لأصحاب المدونات والحسابات الشخصية على مواقع التواصل، لكن سماع رأيٍ آخر وكتابة موضوعية جادة وتحليل نقدي حقيقي يكاد يكون منعدماً في زحام الكتابات التي صارت مهمتها المباركة فقط، والتي تتعالى فيها نبرة أن الذين يطرحون تساؤلاً أو رأياً مغايراً هم حفنة من الخونة والعملاء وذوو الميول والانتماءات المشبوهة، زد عليهم أولئك الذين يستعملون أهمية أسمائهم وما يدخره لهم الناس من صفات المعرفة وألقاب الثقافة للتبرير المطلق لأي حدث أو موقف، مستعملين طرفاً واحداً من الحقائق، وصامتين عن أطراف أخرى، قد تكون بغاية الخطورة.
حين أقدمت السعودية على خطوة الحرب على الحوثيين وبقايا نظام صالح، انطلق هياجٌ واسع، تحول في بعض حالاته من حملة تأييد شعبية إلى شحن مذهبي مباشر، مع أن الدولة نفسها ومنذ قيام الحرب وحتى اليوم تؤكد باستمرار أنها ليست حرباً طائفية من ناحيتها، وإنما هي مواجهة للنفوذ الإيراني، وما يلحق به من تهديد المصالح السعودية، أمناً واقتصاداً، في بدء الحرب، ولأشهر تلته كانت أية كلمة تتحدث عن الحرب في غير المناخ العام تتحول إلى اتهام وتخوين مباشرين. والأصوات، التي في حوزتها الكثير من التاريخ والتحليل، لتقوله بتعقّل وصدق، استسلمت ملكاتها هذه للصراخ والحشد، وبالتالي اختفت القيمة النقدية وفائدتها كلياً، وبدلاً من أن تظهر كثير من النقاشات في مكانها الصحيح انسحبت إلى المجالس ومراسلات الهواتف وهباء الإنترنت. ما هو أكيد أن هناك عقلاء كثرا في مؤسسة السياسة لا ينظرون- ويفترض بهم ذلك – إلى كتابات النقد والتحليل الجادة والموضوعية على أنها ضرب من الخيانة.