قد يكون من أهم الأمور التي تطرحها الجامعات هي فرصة مواصلة التعليم لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، وأهمية البحوث المقدمة لنيل هاتين الدرجتين أو غيرهما، لكن واقع الدراسات العليا هو أقرب إلى حالة تلقينية لا تبتعد كثيرا عن مرحلة البكالوريوس إلا في البحث النهائي الذي يجعل الاختلاف واضحا بين المرحلتين، هذا إذا تجاوزنا ضعف البحوث المقدمة وتقليديتها وعدم جدتها، فضلا عن كون كثير من أساتذة الجامعات يرفضون الرؤى الجديدة أو المناهج الجديدة في رسم خطط الطلاب بحيث تتضاعف مشكلات الدراسات العليا أكثر من غيرها، وبشكل عام فمشكلات الجامعات السعودية لا تزال هي نفسها منذ سنوات بعيدة، ولم يطرأ عليها تغيير إلا في الشكليات دون أن تمس جوهر العملية الأكاديمية.
نحن أمام مشكلات متراكمة ليس من السهولة حلها مع الذهنيات الإدارية والأكاديمية التي تتولى مفاصل القرار في جامعاتنا، بدءا من الأستاذ الجامعي حتى مديري الجامعات نفسها الذين يهمهم الشكل الجامعي دون الاهتمام بالإطار الأكاديمي، فضلا عن أن كثيرا من مديري الجامعات لا يستطيعون اتخاذ قرارات أكاديمية في صالح الجامعات لأسباب طويلة -ليس هنا مكانها- تختص بمفهوم العملية التعليمية في الجامعات نفسها؛ إضافة إلى بنية الفكر الرسمي وغير الرسمي الذي يسيطر على هذا المجتمع، فجلّ ما يفعله أكثرهم هو تحسين البيئة العمرانية دون البيئية الأكاديمية مع أنها الأهم والأكثر تأثيرا.
والدراسات العليا تحديدا تعاني مشكلات أكاديمية، وعلى أهميتها في بناء الرؤى العلمية التي من خلالها يستطيع الطلاب البحث والتطوير في المجالات البحثية والأكاديمية إلا أنها تعاني قصورا ومشكلات طويلة يمكن إيجازها فيما يأتي:
المشكلة الأولى هي في قبول طلاب الدراسات العليا، فعلى رغم أن كثيرا من الجامعات ذات شروط صارمة في قبول الطلاب إلا أن الواسطة دائما فوق القانون، فيدخل من لا يستحق لنفوذه في الجامعة حتى لو كان من خارجها لأسباب اجتماعية أو اقتصادية لا علاقة لها بالعلمية مطلقا، ويبعد الطالب الذي ربما يتحلى بقدر كبير من العلمية، إضافة إلى أمر آخر في مسألة قبول الطلاب في الدراسات العليا، وهي أن المسألة ليست في المعدل التراكمي الذي حازه هذا الطالب، أو تلك الطالبة، كتحصيل علمي في دراسات البكالوريوس بقدر ما هي في الشخصية العلمية والبحثية للطالب نفسها، فبعض الطلاب لا يحظون بالتقدير المطلوب ربما لظروف مرت عليهم في سنوات الدراسة الجامعية، لكنهم أكثر التزاما في المسائل العلمية وأكثر قدرة على البحث من بعض الطلاب الذي لديهم تقديرات عليا لكونهم أكثر حفظا. إذ كان من الواجب أن مسألة التقدير تكون آخر ما تفكر فيه الجامعات متى ما تحققت أمور أخرى أكثر أهمية، بحيث يمكن قياس الشخصية البحثية للطالب أو الطالبة أكثر من غيرها، كقدرتهم على البحث والابتكار، أو الفعالية التعليمية، بمعنى أن سيرة الطالب أو الطالبة الفكرية والثقافية والعلمية والأنشطة الاجتماعية والمجالات الإبداعية في التخصص نفسه لها اعتبارات أكثر من التقدير، فإذا تنافس الطلاب في هذه المجالات فإن حضور التقدير يكون لازما للمفاضلة. من هنا يضطر كثير من الطلاب البارزين الذين أَضَرّ بهم التقدير إلى اللجوء إلى المشكلة السابقة (الواسطة) مثلهم مثل غيرهم حتى تسير أمورهم في القبول، وقد ظهر تميز كثير منهم لاحقا في حين ظهر ضعف بعض الطلاب الذين كانت تقديراتهم عالية. لا أدعو إلى إلغاء التقدير؛ بل أدعو إلى وضع اعتبارات أخرى قبل التقدير كما أوضحت آنفاً.
المشكلة الأولى تليها المشكلة الثانية مباشرة وهي أن غالبية الطلاب في الدراسات العليا، خاصة في مرحلة الماجستير، لا يمتلكون الحد الأدنى من العلمية البحثية، فالبحوث المنقولة من الإنترنت دون الإحالة على المصادر الإلكترونية الموثقة أكثر من التي يعمل عليها الطلاب بأيديهم، والغريب أن الأساتذة الجامعيين يعلمون بهذا الأمر ويغضون البصر. أتفهم أن يكون هناك قصور في غالبية البحوث أو التكاليف المقدمة، لأن الجامعات لا تخرج طلابا يمتلكون أدوات بحثية في البكالوريوس وإنما تهتم بالجانب التحصيلي، فالتقصير البحثي يمكن معالجته متى ما كان هناك استعداد حقيقي من الطلاب والأساتذة على حد سواء. الإشكالية أن الأستاذ الجامعي نفسه غير مهتم بالبناء البحثي للطالب وإلا ما تجرأ الطلاب على ذلك.
وإذا ما انتهت هذه المشكلة فإن مشكلة ثالثة تظهر وهي عدم استقلالية الطالب البحثية، فهو محاصر بعدد كبير من الأساتذة الذين تختلف آراؤهم حول قضية واحدة، وعليه أن يرضي جميع هؤلاء؛ بل وينافق لهم أحيانا، والطالب الذي يجرؤ على إظهار رأيه الخاص الذي قد يكون مخالفا لرأي أساتذته فإنه معرض إلى تصنيف يمكن أن يضره لاحقا، فالأفكار التي تعرض في الدرس العلمي لا علاقة لها بالعلمية بقدر ما هي آراء أيديولوجية يجبر الطلاب عليها صراحة أو ضمنا، بدعوى أن لكل جامعة هويتها الخاصة التي لا بد أن تحققها من خلال أهدافها ورسالتها. نعم لكل جامعة أهدافها ورسالتها وهويتها، لكن كل هذه إنما هي كليات عامة تتقاطع كثيرا مع التوجهات الكبرى والعامة للمجتمع، وليست تفصيلية، وعلى هذا فإن استقلالية الطلاب البحثية مغيبة نهائيا حتى وإن ظهرت الأمور بأن البحث المقدم يحظى باستقلالية الطلاب.
إن الاهتمام بالدراسات العليا وفتح مجال البحث بلا أي مواقف أيديولوجية وفق الأسس العلمية المعتبرة مع الاهتمام باستقلال شخصية الطلاب العلمية يمكن أن يفتح العلوم على مصراعيها، بحيث يمكن أن تدخل الجامعات السعودية في التصنيفات العالمية وفق آليات الجودة التي تسعى إليها بعض هذه الجامعات ولم تستطع تحقيقها إلا من خلال أساليب عجيبة اتضح لاحقا أن فيها من الفساد أكثر مما فيها من الاهتمام بالبحث العلمي، ونشرت الصحف فضيحتها في وقتها.